الجمعة، 17 أبريل 2015



نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان



مساء الخميس




وقفة على الدرب


كان الجو صيفا وطريق الإسكندرية الزراعى مزدحما بالسيارات الذاهبة إليها والراجعة منها .. وكانت السيارات الخاصة تمرق كالسهام من بين اللوريات الضخمة المحملة بأكياس القطن وألواح الخشب وفناطيس البترول ..
وكان الطريق الممهد كبساط من الديباج يساعد على هذه السرعة ويضاعف منها كلما أحس السائق بأن الزمام فى يده ..
وكنت مسافرا فى هذا الطريق ساعة الغروب مع أربعة من الركاب ولم أكن أعرف منهم أحدا وذلك فى سيارة أجرة أخذناها من ميدان المحطة ..
وكانت الحرارة شديدة حتى بعد أن غربت الشمس فجلسنا صامتين .. ثم فتح أحدنا الحديث بعد أن تجاوزنا مشارف المدينة وأخذ يتحدث عن ازدحام القطارات المتجهة إلى الإسكندرية فى هذه الأيام واستحالة حجز تذكرة فى يوم السفر ..
وكانت السيارة تمضى بنا على سرعة 70 كيلو متر فى الساعة وظروف الحال تدل كلها على أننا سنبلغ طنطا فى الساعة التاسعة والنصف والإسكندرية بعد الحادية عشرة ..
ولكن حدث ما لم يكن فى الحسبان .. إذ تعطلت بنا السيارة ونحن على مبعدة سبعة فراسخ من طنطا وحاول السائق اصلاحها بكل وسيلة فلم يوفق ومع ذلك لم ييأس وظل يعمل بيديه فى جلد عجيب ..
وظهر الضجر على وجوه الركاب الأربعة فنفضوا أيديهم من السائق وأعطوه نصف الأجر .. ومر لورى فاستوقفوه وبعد محاورة قصيرة رضى السائق أن يأخذهم جميعا وانطلق بهم ..
وتخلفت عنهم إذ كنت فى الواقع أبغى مطية أفضل وفى الوقت عينه سمعت محرك سيارتنا يدور فى نفس اللحظة التى ركبوا فيها اللورى وقدرت أن السائق وضع يده على مكان العطب وأننا سنلحق بهم بعد قليل ..
ولكن خاب ظنى إذ كان المحرك " يخبط " ثم توقف مرة أخرى ..
وقال لى السائق وعلى وجهه آثار المعركة التى خاضها مع المحرك :
ـ لا فائدة فى الليل .. والصبح له عينان .. وآسف جدا لهذا العطب الذى يحدث لكل آلة ..
ثم استطرد وهو يرمى ببصره الظلمة .. محاولا أن يستشف معالم الطريق ..
ـ عندما يمر لورى سأحاول إيقافه لتركبه إذ أن السيارات الخاصة لا تقف قط ..
وانتظرنا أكثر من ساعة ولم يرض سائق لورى أو عربة خاصة أن يقف فى عتمة الليل ..
وسألته وأنا أحس بالقلق :
ـ ألا توجد قرية على مقربة من هنا ..؟
ـ بركة السبع قريبة جدا .. وهناك مركز صغير لاصلاح الاطارات على مدى فرسخ واحد .. وإذا سرت إليه قد تجد سيارة .. وإذا لم تجد السيارة وجدت الشاى والطعام .. أنه موقع أحسن من هنا على كل حال ..
ـ وأنت ..؟
ـ سأنام فى السيارة إلى الصباح .. اعتدنا على هذا ..! وفى الصباح يأتى الفرج ..
ـ سأذهب وأرى .. وإذا وجدت طعاما سأبعث لك بعشائك ..
ـ شكرا ..
ونقدته ما يرضيه من الأجر ..
وقال لى وعلى وجهه الصبر والقناعة :
ـ مع السلامة .. ابعد عن سكة السيارات ..
وسرت وحدى فى الطريق فى ليلة تلمع فيها النجوم .. والسماء فوقى زرقاء صافية وكان القمر فى المحاق .. والعتمة تبدو شديدة لأن الزراعة عالية والأشجار الباسقة على الجانبين تضاعف من خط الظلمة .. ولكنى شعرت بالقوة والانطلاق وأنا اسير فى قلب الطبيعة تحت السماء وبين الحقول .. كنت أحس بالحرية التى يبغيها كل إنسان وأشعر أن لا سلطان لأحد علىّ اطلاقا وأننى أدفع الهواء بصدرى وأتحرك بكل حريتى .. وكان الهواء الذى بدأ يترطب يملأ رئتى وينعشنى وعيناى تسبحان فى الظلمة الشاحبة وترقبان السماء الصافية فى تأمل المستغرق بحواسه فى جمال الكون ..
وحدت عن طريق السيارات خشية أن أصرع تحت عجلاتها ولا يحس بى إنسان .. وأحسست بأنفاس الزرع وأنا أقترب من الحقول المزهرة على الجانبين كانت الأذرة فوق مستوى كتفى .. والأرض لاتزال حارة .. ورائحة التراب تختلط مع أنفاس الحشائش .. ولمحت ضباب قرية عن بعد وبصيصا من النور يتصاعد من كوات المنازل .. فخمنت أنها بركة السبع التى حدثنى عنها السائق ..
وكان مجرد احساسى بأنى أقترب من البيوت ومن أنفاس الحياة حافزا لى على الإسراع فى الخطو .. ولم أشعر بالخوف وأنا أسير وحدى فى الليل فى ظلمة مطبقة وسكون موحش .. فقد اعتدت على هذا وألفته .. فى خلال عشر دقائق من السير الجاد .. لم أقابل شخصا فى الطريق ولا فلاحا فى الحقل ..
وكنت متخففا من كل حمل فلم تكن معى حقيبة ومن عادتى أن أذهب إلى الإسكندرية هكذا لأركب القطار أو السيارة فى الساعة التى أجد فيها أيهما مهيئا لى  ..
وأكسبنى الليل والسير فيه وما فيه من غموض ورهبة شعورا عارما بحرية الإنسان .. وكنت وأنا أتخطى الحقول وأجتاز مزارع الأذرة والخضر .. أحس بيد الفلاح القوية فى الأرض .. وأدركت وأنا أتنفس مع أنفاس الزرع لماذا يحس الفلاح بحريته كاملة كلما خرج إلى الحقل وعرف أن سماء الله هى التى تظله وأرضه هى التى تقله .. يعيش من خيراتها .. وفى تيه من التأمل الذى استغرق حواسى بصرت عن يمينى كثيفا من الشجر وبركة ماء بين الأشجار .. وكان ماؤها يبدو فى ظل العتمة راكدا بلا حياة ولمحت نورا ضئيلا ينبعث من كوخ وراء البركة ..
وسرت فى " درب " بين المزارع .. ولما وقفت على حافة الحقل .. لمحت البيت بين كثيف من أشجار النخيل .. وظللت فى مكانى وأنا أؤمل أن أبصر دلائل الحياة ..
كان الهواء باردا .. وكومة من التبن هناك فى حقل محصود .. ثم رأيت خرافا ونعجات .. وبقرة مربوطة فى وتد ..
ولما اقتربت أكثر من البيت رأيت فى العتمة شبح كلب يزمجر .. فانحنيت لأتناول ( طوبة ) أرميه بها .. فركبه السعار ودار حول نفسه فى وحشية أرعبتنى .. وأحسست بأنى أمام شىء رهيب لا قبل لى به .. فوقفت فى مكانى وقد شلت كل حركة فى جسمى .. وفى خطفة البرق أحسست بأنياب الحيوان تنهش كتفى ووقعت على الأرض .. وفى نفس الوقت دوت طلقة نار .. وأغمضت عينى ..
ولما فتحتهما وجدت رجلا يقف على عكاز فوق رأسى .. وكان لا يزال بيده البندقية القصيرة التى أطلق منها النار ..
وقال باسما :
ـ لا تخف فقد انتهى ..
وتأملت الحيوان صريعا على مدى أمتار .. وكان الرجل الذى صرعه قد استدار ومشى على عكازه بضع خطوات وهتف بشخص فجاء هذا سريعا .. وتحاملت عليه .. حتى أدخلنى فى رواق البيت .. وغسل الجرح وحشاه " بالبن " وكان الدم لايزال ينزف وشعرت بضعف شديد .. ولا بد من الطبيب فى هذه الساعة .. فأرسل نفس الشخص سريعا ليأتى بطبيب الوحدة المجمعة ..
ورحت أجيل بصرى فى القاعة .. كان المضيف قد أراحنى على دكة تحتها حرام ووضع فوقى بطانية وتحت رأسى وسادة محشوة بالقطن .. ولكننى أحسست بالبرودة فى جسمى رغم البطانية ورغم أننا فى الصيف .. من فرط الدم الذى نزف منى .. ثم شعرت بالتعب .. وبآلام لا حد لوصفها .. وراحت أفكارى تحوم .. ورحت من فرط التعب فيما يشبه النعاس .. حتى استيقظت على صوت الطبيب .. وهو يضمد الجرح ..
وقلت للطبيب :
ـ أخشى أن يكون الكلب مسعورا .. وفى هذه الحالة لا بد من الذهاب إلى مستشفى الكلب .. والعلاج طويل ..!!
وقال بهدوء وهو يبتسم :
ـ اطمئن أنه ليس بكلب ..
ـ ماذا .. ليس بكلب ..؟!
ـ نعم إنه وحش ..
وفتحت فمى مدهوشا .. وسمعت صوت الرجال فى الخارج .. قم رأيتهم من فرجة الباب يسحبون شيئا على الأرض ..
وسألت الطبيب :
ـ هل هو الوحش ..؟
ـ انها البقرة .. صرعت من نفس الرصاصة ..
ـ من نفس الرصاصة ..
ـ أجل .. كان لابد من هذا لتعيش ..!
ـ ولكن الرجل لم يحدثنى بشىء من هذا .. وجعلنى أتصور أنه كلب ..
ـ هذا هو الفلاح ..
وأخذت أفكر فى البقرة وثمنها أنها تساوى 150 جنيها وربما كانت " عشارا " وتساوى أكثر من هذا وصرعها الرجل بيده .. وربما ليس عنده سواها من أجل غريب لا يعرفه .. وما رآه قط فى حياته .. وعجبت ولكن عجبى زال بعد لحظات من التأمل لأننى أفكر بعقلية رجل المدينة .. ولا أعرف الفلاح .. أنه اعتاد على هذه الأشياء .. وعندما تنزل به المصيبة يفكر فى العوض ولا يقنط من رحمة الله ..
أنه يتلقى النوازل بقلب صلد .. فهو يزرع الأرض ويصيبه " المن " .. ويزرع ويصيبه " الهلوك " .. ويزرع ويصيب زرعه العطش .. ويزرع ويغرق زرعه أو يجرفه السيل أو تحرق أجرانه ولكنه مع كل ذلك يزرع ويظل يزرع لأنه يعرف بفطرته سر الحياة .. والحياة حركة ومن يتوقف يموت .. ولهذا بقى الفلاح المصرى وعاش فى الأرض .. وكان حتى فى أشد عصور الظلام يشعر بقوته .. فى أعمق أعماق نفسه ..
ولهذا عندما انقشع الضباب وأزيح التراب انتفض كما هو الآن .. واستفقت من سوانحى على صوت الطبيب وهو يغلق حقيبته الصغيرة ويقول :
ـ سآتى مرة أخرى فى الضحى .. لأغير على الجرح وأعطيك حقنة ..
ـ وأستطيع أن أتحرك بعد ذلك ..؟
ـ سترى .. بعد الكشف ..
وتركنى .. وأحسست بالنعاس .. وبأن الألم بدأ يخف ..
ولما فتحت عينى فى اشراقة الفجر .. كان الرجل الذى لا أعرف حتى اسمه يقف على باب القاعة معتمدا على عكازه .. يقف حارسا وما أحسبه استراح ولا غفا ساعة واحدة فى هذه الليلة ..







===================== 
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
=====================    
















سوق الأحد


كان سوق الأحد من أشهر الأسواق فى صعيد مصر .. فيهرع إلى ساحته الفلاحون والتجار من كل صوب وفج عميق .. وكان منذ قديم الزمان على طريق القوافل الذاهبة إلى السودان والراجعة منه وتغيرت معالم الحياة ومعالم الطريق .. وعفت على الدروب والمسالك القديمة الأزمان وشقت طرقات جديدة ولكن السوق ظل فى مكانه .. وظلت شهرته باقية على مر السنين ..
كان الفلاح يجد فيه بغيته من الجلباب الزاهى والمذراة .. والجارف والفأس وترس النورج .. وعرق الخشب والزكيبة والشوال .. والمركوب .. وحبل الليف وفى ساحته يبيع البقرة والجاموسة والنعجة .. كما تستطيع الفلاحة أن تشترى ثوب الدمور .. والبكرة والخيط وتبيع الدجاجة والأوزة ورطل السمن ..
 وتحس بجو السوق فى القرى القريبة والبعيدة مع أنفاس صباح الأحد .. فترى  الطرقات والجسور عامرة بالفلاحين والتجار الذاهبين إليه ..
وكان السوق بعيدا عن الجبل على الضفة الشرقية من النيل .. عند قرية نجع الجسور ولكن رغم بعده وتحمل المشقة فى الوصول إليه فإن أكثر من ثلاثين قرية كانت تتجمع هناك كل يوم أحد وتبيع وتشترى فى ساحاته ..
وكانت أسعاره فى واقع الحياة والمعاملة بين الناس هى الأسعار الحتمية للمنطقة كلها فالجاموسة بيعت فى سوق الأحد بتسعين جنيها والبقرة بخمسين والعجلة بعشرين جنيها والثور بمائة كاملة وبيع الجواد العربى الأصيل بمائة وعشرين جنيها ..
وبيعت كيلة البرسيم بثلاثة جنيهات واردب الفول بتسعة .. ويظل هذا السعر يدور على كل لسان إلى أن يأتى أحد جديد ..
وما من فلاح فى مجلس من مجالس الفلاحين وسهراتهم على رءوس الدروب إلا ويتحدث عن سوق الأحد وما رآه وما باعه وما اشتراه منه ..
وكان كل قروى يذهب إليه يبيع ويشترى وهو مطمئن البال تماما لكونه سيحصل على أجود بضاعة وفى الوقت عينه سيبيع بأحسن سعر تقوم به الأشياء ..
وكانت المنطقة الشرقية من ضفة النهر .. لاتزال بعيدة عن السكة الحديد وبعيدة عن الطرق الممهدة وطرق السيارات .. كانت الطرق رديئة .. لذلك كان الفلاحون يبكرون فى الذهاب إلى السوق ليعودوا منه قبل مغيب الشمس ودخول الليل ..
ومع بزوغ الفجر خرج عباس من بيته فى قرية بنى سالم يجر بقرته الشهباء إلى السوق كان عليه مسيرة أربع ساعات كاملة فى مختلف الطرق حتى يصل إلى هناك ..
وكان يحمل معه طعامه وزاده وقد توشح على كتفه بحرامه وكان الصباح يتنفس والقرية لاتزال هاجعة ونسائم الصباح العليلة تحرك سنابل القمح .. وجو سنجابى يمسح وجه الأرض المنبسطة .. ولم يكن على الطريق أحد سواه .. وقد اعتاد عباس على مثل هذه الوحدة كان يخرج بالبقرة مع أنفاس الصباح إلى الحقل قبل أول فلاح فى القرية كان من عادته أن ينشط ويبكر فى كل أمور معاشه ..
وكان يود أن يبيع البقرة ويشترى بثمنها ثلاثة قراريط من الأرض على الجوار للحقل الذى يزرعه وبذلك يضع قدمه كمالك فى الحقل ..
كانت فرصة التملك يرقص لها قلبه فإن من يملك الأرض .. كما يملك البقرة .. وكما يملك الطنبور .. وكما يملك الفأس .. كان قد حاز من ذلك كل مناه ومبتغاه فى الحياة ..
وطلعت بشاير الصبح مشرقة على البرية فنشطت الدابة ونشطت وراءها قدم عباس ..
وكان يعرف الطريق إلى السوق جيدا .. فقد ذهب إلى هناك من قبل مرتين .. وباع واشترى منه ..
وكان يسلك الطريق المختصرة التى تؤدى إليه وتوفر من الزمن ساعة على الأقل ..
ولهذا اتخذ طريقه فى بطن الوادى قريبا من مزارع الشعير ..
وبلغ السوق ضحى .. وألفاه مزدحما والماشية المعروضة للبيع كثيرة فلم يعرض عليه الثمن الذى كان قد عقد عليه نيته فظل مترددا فى مكانه حتى العصر وأخيرا باع البقرة بسبعة وأربعين جنيها .. وخرج من السوق .. وجلس فى مقهى صغير على الدرب فتغدى وشرب الشاى .. ثم اتخذ طريقه إلى القرية .. وهو يشعر بأنه أخف حركة .. لأن البقرة كانت تثقله فى السير بين المسالك الصغيرة وتجعله لا يستطيع أن يمشى على ساحل النيل ..
ولما انقضى النهار ودخل فى الظلمة .. كان يسير على الشاطىء الشرقى .. وكان الماء يجرى متدفقا بجواره وتطفو على صفحته أشباح سود .. تظهر ثم تمضى ولم تكن غير المراكب الكبيرة وهى طاوية أشرعتها ومنطلقة مع التيار ..
وكانت زوارق الصيادين لا يبدو منها سوى شراع يخفق فى قلب الليل البهيم ..
وكان يسمع وهو سائر على الشط نباح الكلاب .. ثم هدير الماء وصوت انهيار جرف من الأرض إلى الماء .. فأبعد قليلا عن سيف النيل .. وشعر بالخوف وأخذ ينصت بانتباه إلى كل صوت وكل حركة حواليه .. وكان خوفه على النقود التى فى جيبه أضعاف خوفه على نفسه لقد تبلورت حياته وتركزت وانحبست آماله فى هذا الأمل الأوحد .. أن يمتلك قطعة من الأرض لنفسه يضرب فيها فأسه ويزرع ويحصد وهو شاعر بالتملك وبأنه حر وليست عليه التزامات سيقضيها فى آجال معلومة ..
وشعر بالبهجة لانطلاق أحلامه الذهبية من مكمنها .. على هذه الصورة وتمزق شمل الليل .. وطلع القمر نصف بدر .. وتكشفت السماء الصافية .. والتمعت صفحة الماء .. وأخذت قمم الأشياء تتحول إلى لون الأرجوان ..
وأحس بالسكون كأروع ما فى الوجود بأسره وخيل إليه أنه هو وحده .. الذى يتحرك فى الليل وأخذ ينظر إلى الأفق من وراء النخيل المخيم على القرى  .. وإلى الضفة الأخرى من النهر ..
وسمع صوت المجاديف تحته فى الماء ..
وسدد بصره إلى أضواء تتحرك عن قرب منه .. ولمح على ضوء القمر الخافت زورقا يلقى برجل إلى الشاطىء ..
ولما خرج الرجل واستوى على الطريق عرفه عباس فقد كان أحد أهالى بلدته ويدعى حسانا وكان راجعا من النجع على الضفة الغربية من النيل ..
وتصافح الرجلان فى هدأة الليل وكان حسان يحمل بندقية قصيرة وسر عباس لأنه وجد من يحرسه فى الليل ..
وسأله حسان :
ـ من أين يا عباس فى هذا الليل ..؟
كنت فى سوق الأحد ..
ـ ولماذا تأخرت إلى هذه الساعة ..؟
ـ كان من سوء حظى أن البهائم كثيرة .. فنزل السعر .. حتى كدت أن أعدل عن بيع البقرة كلية .. وأخيرا بعتها .. ولولا تعب المشوار ما بعتها .. فإن الثمن غير مجز اطلاقا ..
ـ بكم بعتها ..؟
ـ بسبعة وأربعين جنيها ..
ـ بركة وخير كتير .. ولماذا لم تشتر غيرها ..؟
ـ سأشترى قطعة من الأرض من غيط عبد الحفيظ .. وسأدفع له الثمن الليلة .. ونحرر العقد ..
ـ ولماذا العجلة ..؟
ـ أنها أرض جيدة وأخاف أن يشتريها غيرى وتضيع الفرصة ..
وخيم الصمت .. وكان الليل ساكنا فأخذا يفكران كل فى شئونه .. وشرعا يسيران فى نطاق النهر .. ولم يلتزما الطريق .. وكان باقيا نصف ساعة من السير الجاد ويبلغان القرية ..
وفى جوف دوامة من الأرض المنخفضة ظللتها المياه وبرزت كالخليج وحجبت عنها ضوء القمر انبثق شىء كالشهاب فى رأس حسان شىء تصبب له عرقه .. وظل يتصارع معه مدة طويلة .. ولكنه أخيرا سيطر على جوارحه ..
وعندما برز أمامهما مثل هذا الخليج المعتم مرة أخرى .. وجدها حسان فرصة واتاه القدر اياها فتأخر عن رفيقه وأطلق عليه النار ..
وأخذ المبلغ من جيب عباس المسكين ثم حمله وألقاه فى النيل ..
وخرج إلى الليل كما كان ..
ولما دخل القرية وجدها ساكنة سكون الموت كان يخيم عليه الصمت المطبق فلم تنبح حتى كلابها ..
ودخل بيته .. فوجد زوجته نائمة .. ولكنها استيقظت على حركته فى فناء الدار فنهضت وأشعلت له السراج .. وتفقدت الباب وحظيرة  الدجاج .. ثم عادت إلى القاعة ووضع حسان البندقية جانبا وجلس فى صحن الدار باحثا عن مكان يخفى فيه النقود المسروقة فلم يجد مكانا أصلح من فجوة يعملها فى الجدار ..
ولما أحس بأن زوجته نامت واستغرقت فى النوم أمسك بالأزميل فى يديه وخلع قالبين من الطوب ثم وضع النقود المسروقة فى الفجوة وسوى عليها .. وعلم مكانها بعلامة لا يعرفها سواه .. وبسط الحرام واستلقى .. إلى الصباح ..
وفى الصباح وجد أهل القرية يتحدثون عن غيبة عباس الذى لم يرجع من السوق فأخذ ينصت إلى حديثهم ولا يشترك معهم فى القول ..
وظل سحابة النهار جامدا وقد علت سيماء وجهه الصرامة ..
وفى السحر سمع أهل القرية يلفظون بأن عباس باع البقرة .. وشاهده الناس .. راجعا من السوق .. ويخشى أن يكون قد أصابه مكروه فى غلس الليل ..
وخشى حسان أن تكون عين قد رأته فى الليل وهو فى صحبة عباس فتولاه القلق ولكنه .. استيقن أخيرا بأن أحدا لم يره فاطمأن ..
وانقضى اليوم الأول على غياب عباس عن القرية وأهلها يعللونه بمختلف الأشياء فمنهم من قال أنه أصيب بمكروه ومنهم من قال أنه شاهده وهو يركب السيارة العمومية المتجهة إلى مدينة أسيوط ومنهم من قال أنه شاهده فى داخل المدينة يركب القطار من المحطة ..
وظل حسان فى القرية ليشتم اتجاه الريح ..
وفى اليوم الثالث .. حمل بندقيته وخرج فى الليل كعادته متجها إلى النجع ..
ومر بجوار بستان على الطريق وكان متعودا أن يتسوره فى غفلة من حارسه وكلابه .. ليملأ " جرابه " من ثمرات البرتقال والليمون ليكون زاده وهو منقطع عن العمران فى النجع ..
وتسلق وملأ جرابه بالثمر .. وعندما أخذ يتسور السور ليخرج أحس به الكلب وطارده .. وتفزعت الكلاب المجاورة كلها على صوت الكلب وطاردت الرجل .. وتجمعت عليه فلم يجد بدا من أن يطلق النار .. وردت عليه طلقة من حارس البستان .. طلقة جعلته ينبطح على وجهه والبندقية فى يده ..
وعندما اقتربوا منه وجدوا الرصاصة قد صرعته وكانت أصبعه تشير إلى شىء هناك فى النهر جثة رجل قد أخذ يطفو على سطح الماء ويتحرك على مهل مع التيار ..




====================== 
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
======================     



مساء الخميس



كنا نتجه إلى الإسكندرية متخذين الطريق الزراعى فى جو حار خانق ووسط قوافل من السيارات لا حصر لها فى سيارة قديمة من السيارات التى تستعمل عادة فى نقل الدخان إلى دكاكين الريف .. ثم حولها صاحبها فى فصل الصيف إلى عربة ركاب ونقلها من منطقة بنى سويف إلى القاهرة لتعمل على خط المصايف بين القاهرة والإسكندرية .. مستغلا كل الظروف فقد كان أجر الراكب الواحد يرتفع إلى 150 قرشا فى المسافة .. ثم ينخفض إلى ثمانين قرشا تبعا لتقلبات الأحوال ..
وكنا فى أول أغسطس والشمس تلهب وجه تمثال رمسيس القائم فى قلب الميدان والذى كان ينظر بغيظ وعجب إلى حركة المرور المتخلفة التى تجرى تحت أقدامه ..
ولا أدرى كيف التقطنى المنادى وأنا أرتد عن السكة الحديدية .. بعد أن الفيت كل القطارات محجوزة لمدة يومين والزحام على أشده .. وأدخلنى بفعل ساحر فى جوف هذه العربة الكئيبة .. كانت مقاعدها بالية ويعلوها التراب وطلاؤها الخارجى قد حال لونه وستائرها ممزقة وحالتها فى الجملة تدعو إلى الرثاء .. وركبتها وفى نفسى اشتياق لأن أمر بتجربة جديدة فلم تكن هى أنسب العربات الواقفة على صعيد واحد فى الناحية الجنوبية من الميدان ..
ولكنى كنت أقف هناك ضائعا تحت " الباكيه " ولا أدرى كيف أمضى أو أتقدم خطوة .. عندما امتلأ أمامى تاكسى وتحرك سريعا .. ثم تبعته سيارة من نفس الطراز ..
وفى هذه اللحظة انتشلنى من حيرتى صوت المنادى .. وهو يقول :
ـ تفضل .. يا سيد .. هذه عربة مريحة ورخيصة وأجر الفرد 130 قرشا ..
وكنت قد سمعت منذ لحظات قليلة أثناء وقوفى سعر البورصة ارتفع إلى 160 قرشا ..
فركبت فى الزاوية اليسرى من الصف الثانى ملاصقا للنافذة ولم أكن أحمل حقيبة ولا ورقة واحدة ولا أى شىء على الاطلاق ..
وكانت الكراسى الأربعة الأمامية التى فى الصف الأول محجوزة كلها كما عرفنى السائق .. وبقى الكرسيان اللذان بجانبى إذ أن العربة معدة لسبعة ركاب وجاء الراكبان سريعا فقد كانت العربات الموجودة فى المكان لاتكفى سيل الركاب المتدفق ..
وفى حوالى الساعة الخامسة مساء قدمت الأسرة التى حجزت المقاعد الأمامية وكان معهم متاع كثير ..
وأدخلوا المتاع فى حقيبة السيارة الخلفية ثم ركبوا أمامى ..
وركب بجوار السائق مساعد له وكان شابا .. جم النشاط يتحرك فى سرعة اللولب .. فلما أشرفنا على مشارف شبرا واتخذنا طريق المزارع استرخى وتجمع على نفسه كالقوقعة .. ولم يعد يعبأ بشىء مما يجرى على الطريق ..
وكانت الأسرة الجالسة أمامى مكونة من شاب نحيل أسمر لم يتجاوز الثلاثين وسيدتين احداهما شابة أنيقة فى الخامسة والعشرين من عمرها والأخرى عجوز بلغت الستين .. ثم غلام فى العاشرة ..
وكانت السيدة الشابة تجلس أمامى مباشرة وبجوارها الشاب ثم غيروا أماكنهم وأبعدوا الغلام عن باب السيارة خشية أن ينفتح الباب فجأة فيسقط الغلام ..
وكانت السيارة تسير بسرعة متوسطة وكل السيارات التى تمر فى الطريق تتجاوزها ثم تخلفها وراءها ..
وأدركنا بعد مسيرة ساعة أننا لن نصل الإسكندرية قبل منتصف الليل فظهر الاستياء على وجوه الركاب .. وأخذوا يحثون السائق على الاسراع ..
ولكن الراكب الذى بجوارى كان هادئا ولم ينبس ببنت شفة .. وبدا لى أنه اعتاد الركوب فى مثل هذه العربات ..
وقال باسما فى همس وهو يلتفت إلىّ .. لما وجدنى صامتا مثله ولا أشارك الركاب فى الحملة على السائق :
ـ إن الإسكندرية ستظل فى مكانها سواء وصلنا فى أول الليل أو آخره .. ولن يبتلعها البحر ..
ـ هذا حق ولكن مثل هذه السرعة لا تناسب هذا العصر .. ولا ترضى الكثيرين .. إننا فى عصر الصواريخ ..
ـ وماذا يفعل السائق المسكين ..؟ وما ذنبه ..؟ المحرك قديم وهذه هى أقصى سرعة للسيارة .. والأمر خارج عن ارادته .. ولو كان فى وسعه أن يطير لطار ..
ولكن هذا الكلام لم يقنع الشاب المرافق للأسرة وتبادل مع السائق كلمات جارحة حتى أن هذا أبدى استعداده عن طيب خاطر بأن يرد لهم العربون الذى تناوله منهم مقدما .. وينزلهم فى مدينة بنها دون أجر على الاطلاق ..
وبمثل هذه الحالة من التوتر سارت العربة فى وهج الشمس فى طريق ناعم كالحرير ولكنه مشحون إلى أقصاه بالسيارات الذاهبة والآبية ..
وكنت مستريحا فى الجانب الأيسر مغمضا عينى نصف اغماضة لا أعبأ بتحركات السيارة أسرعت أو أبطأت فى الطريق ولا أنصت إلى حديث الركاب الذين جلسوا معى فى هذا الحيز الضيق ..
وفتحت عينى إلى الحقول المزهرة على الجانبين .. وإلى الذهب المراق على الأرض فى كل شبر تطويه ..
كانت الحقول يانعة على امتداد البصر حوالينا .. والقطن قد تفتح نواره .. وعيدان الذرة قد استطالت سوقها وأطلت قناديلها ..
وعلى مبعدة فرسخ واحد تبدو القرى الوادعة .. وقد خيم عليها النخيل .. وحلقت فوقها أسراب من الطير تكسر أجنحتها وهى تتماوج وتتمايل فى سماء ساكنة ..
وقرص الشمس ما زال يلتهب وهناك شىء أشبه بالدخان بدأ يتجمع .. ثم ينقشع بددا ..
وظلت الصورة رائعة وأخاذة فى هذا المحيط الريفى الجميل .. وكان الفلاحون متناثرين هنا وهناك فى قلب الحقول وفى أطرافها يعزقون الأرض أو يسقون الزرع أو يشقون القنوات الصغيرة .. وسواعدهم المفتولة تبدو عارية تحت لفح الشمس ..
ولقد ظل هذا الفلاح على مر الدهور يحس وهو يعمل فى الأرض بساعده أنه سيدها ومالكها .. ظل كذلك دوما يشعر بنفسه وبكيانه وبأنه سيد هذه الأرض رغم ما حاق به من بؤس وعذاب فى عصور التلف وعهد الاستعمار .. ظل كذلك صامدا وعاش حتى استرد حريته وأصبح مالك الأرض الحقيقى وسيدها ..
وكانت هذه السوابح وأمثالها تطوف فى ذهنى وأنا أنظر إلى الحقول وأدخل فى تيه من الجمال فى كل لحظة حتى غفلت عمن معى فى السيارة ..
 ثم تنبهت على صوت السيدة التى أمامى ـ وكانت تود أن تزيح ستار النافذة .. الممزقة بعد أن خف وهج الشمس .. تسألنى فى صوت ناعم مبحوح أن كان ذلك يضايقنى .. فأجبتها فى همس بأن تفعل مافيه راحتها وتركتها .. وأنا فى شبه غيبوبة .. تزيح الستارة بيدها الرخصة ..
وقد جعلتنى هذه الحركة اتجه ببصرى إلى داخل العربة .. وأتفرس فى وجوه الركاب ..
كان الراكب الذى بجوارى سمينا بادى الطيبة له عينان وديعتان وبشرة سمراء ويرتدى حلة رمادية واسعة .. وكان خفيض الصوت قليل الكلام ..
أما الشاب الجالس بجواره مما يلى النافذة من نفس الصف فقد كان ثرثارا عصبيا ينفض رماد سيجارته دوما بيد مرتعشة .. وكان فى رأسه عينان قلقتان بادى التبرم .. وله جبين مقطب وسحنة عابسة كأنه يحمل هم الدنيا على كتفيه ..
وكان يحمل فى يده حقيبة أوراق صغيرة ظل يفتحها ثم يطويها .. كأنه ذاهب للمرافعة فى قضية لم يستعد لها ..
وكان يجلس أمامه شاب من طرازه وسنه وبدا لى أنه عائل هذه الأسرة الجالسة أمامى .. كان نحيلا قاسى النظرة طويل الوجه يرتدى حلة داكنة على قميص مفتوح .. ويشير بيديه وهو يتحدث .. وكان أنانيا غليظ الطبع ظل يفتح النافذة ويغلقها تبعا لهواه دون أن يسأل باقى الركاب عن رأيهم .. وجلس ملاصقا له الغلام وكان كثير العبث واللعب والحركة ولكنه مرح ضحوك ..
وكانت السيدة العجوز تضمه إلى صدرها ولم أكن أستطيع أن أعرف أهى أم للشاب أم للسيدة الشابة الجالسة أمامى أم هى والدتهما معا ..
فلم يكن يعنينى الأمر فى كثير ولا قليل ولا كان من طبعى الفضول ..
وكانت الشمس لاتزال تلتمع وكل شىء أخضر حولى .. ودخلنا فى تيه من شجر الصفصاف ..
وبدأ الجو يتلطف وأحسست بشعر السيدة التى أمامى يصافح جبينى وتهتز سوالفه مع الريح ..
وكان القميص الأسود الذى اختارته لتسافر به والذى يلف صدرها يخفى عن عينى كل مفاتنها ولكنه يبرز تحت نظراتى العنق العارى وبشرة فى لون الحليب الذى علاه الزبد ..
وشاهدت وهى تستدير لتحادث جارتها شامة صغيرة سوداء على خدها الأيمن زادت الخد الأبيض فتنة .. وجعلت خط الأنف الدقيق يتألق ..
وكان جرس صوتها منغوما .. وشفتاها مضمومتين وفى لون الكريز ..
وكان شعرها الأسود ساكنا ثم أخذ يتموج حين داعبه هواء الغروب ..
وتحت تأثير خاطر ألح علىّ بعنف أخذت أبحث بعينى فى أصابعها عن خاتم الزواج أو الخطوبة ولكن ضاعت نظراتى فى تيه من الحلى فارتدت خائبا ولم أتأكد من شىء ..
وكنت أعرف أن هذه الرحلة على قصرها ستحرك مشاعرى وتزيل تبلد روحى ..
ووجدت نفسى فى حالة من الانشراح والتفتح ..
وأدركت أننا جميعا ظلمنا السائق .. ولم نسمعه وهو يشقى فى سبيل راحتنا وبلوغنا المدينة التى نقصدها فى أمان كلمة طيبة واحدة وأن استياءنا من بطئه كان حماقة .. وأننا سنبلغ الغاية مهما طال السفر ..
وكان السائق مقبلا بوجهه على الطريق وقد استغرق بكل حواسه لأن الليل دخل وأضيئت المصابيح ..
وكنت أفتتن وأنا أرى الزرقة الصافية فى السماء .. وشعر الحسناء التى أمامى يكون هالة لوجه بدا فى الليل وفى الضوء الشاحب كالقمر ..
وأوغلنا فى الليل واشتد الظلام .. ثم لاحت أنوار طنطا من بعيد ..
ومال بنا السائق بعد قليل إلى المقهى الصغير المعد كاستراحة .. على الطريق .. ولم ندخل المدينة .. وخرجنا جميعا من السيارة لنستريح فى المقهى .. وجلست وحيدا أشرب فنجانا من القهوة ..
وكانت الأسرة التى ترافقنى فى السفر تجلس فى جانب من المكان ..
ورأيت السيدة الحسناء فى مواجهتى هناك .. وكانت ترمقنى من بعيد وكأنها تسألنى :
ـ لماذا ابيض شعرك قبل الأوان ..؟ ولماذا تجلس بعيدا ..؟
والواقع أننى كنت أقرب من كل شىء إليها .. وكنت قد أدركت تماما أن السبب الأول الذى جعلنى استطيب الرحلة ورجات العربة هو وجودها .. وأن أنفاسها المعطرة هى التى حولت الجو كله إلى أريج من العنبر ..
وظللت ألاحظهم بعينى وغاب وغاب عنهم الشاب ثم رجع فنهضوا جميعا .. وانخلع قلبى وأنا أراهم ينقلون حقائبهم إلى سيارة سوداء من طراز " شيفروليه " .. كانت واقفة فى جانب من الطريق ..
وعدت إلى العربة وحدى ومعى الرجل السمين الطيب وأصبحنا الراكبين .. الباقيين فقد طار الشاب الآخر أيضا وترك السيارة وانطلقنا متمهلين على الطريق فى الليل الأسود ..
وكان الهواء قد بدأ يهب ويطيب ولكن الليل قد ازداد أسودادا ووحشة ..
وكانت نجوم صغيرة تتدلى من فوق شجرات النخيل العالية هناك والمنازل القائمة فى القرى الموحشة التى كنا غربيها .. ولم يكن شىء يمكن أن يبصر الوحدة والصمت اللذين كانا يلفانى وأنا أنظر من خلال النافذة الصغيرة إلى الأرض السوداء التى تطوى تحتى وإلى السماء الصافية فوقى ..
وكان خط السماء الأزرق قد التوى هناك فى الأفق الغربى وبدأت الجهامة المطبقة ..
وقد نسيت السائق ومساعده كما نسيت جارى فى العربة ..
وكانت أسلاك البرق والتليفون القائمة بجانبى على الطريق قد غابت فى الظلمة وبدا لى أن السيارة أسرعت بعض الشىء فى طريق ناعم كالحرير ويقوم على جانبيه شجر الصفصاف ..
ثم سمعت صوت القطار السريع يصفر على الشريط الحديدى ويطوى الأرض طيا ..
وخيم السكون .. واشتد الظلام حتى أن العين لم تكن تلتقط أى إشارة للحياة على طول الطريق ..
وكان حفيف الريح الناعم قد أنعشنى ..
وكانت حواس السائق متيقظة على الطريق ..
وكنت قد رمقت صور رفاقى السابقين فى السفر صورة السيدة التى كانت تعطر المكان أمامى وأصبح مقعدها الآن خاليا ..
وكنت أسترخى فى الليل .. وأنوار السيارات التى تأتى فى الاتجاه المضاد تغشى البصر ثم تتركنا فى ظلمة رهيبة ..
وظللنا على هذا المنوال نطوى القرى والمزارع حتى خلفنا مدينة دمنهور .. وراءنا بمراحل وبدا الليل أشد سوادا ورهبة .. كانت السماء ضريرة النجم .. حالكة الظلمة حتى اختفت عن أعيننا كل القرى والكفور ..
وكانت أسلاك البرق السوداء فوقنا صامتة ثم أخذت تئن وتتوجع عندما سنت عليها الريح ..
وعلى ضوء العربة الكشاف لمحنا شيئا أسود منحرفا عن الجانب الأيمن من الطريق .. ولما اقتربنا وسلطنا عليه الضوء .. وضح كل شىء وأحسست برجفة سقط لها قلبى بين ضلوعى .. فقد وجدت رفاقى فى السفر الذين كانوا معنا منذ ساعة .. وكانت السيدة الشابة تحتضن رأس الشاب .. وكان هذا قد أصيب فى رأسه وصدره اصابة بالغة وغاب عن وعيه ..
والعجوز تمسح على رأسه بالماء وتفرك يديه ..
وكانت العربة التى يركبونها مهشمة ومات سائقها .. والعربة الكبيرة التى ضربتها فرت بعد الحادث فى جنح الظلام .. دون أن يلتقط رقمها أحد ..
وكانت اصابة الغلام والسيدتين خفيفة .. أما الشاب فقد كانت اصابته بالغة ومات السائق فى الحال ..
وكان الشاب جالسا بجوار السائق فى مقعد القيادة وجاءتهما الضربة من جنب سريعة فقتلته .. وفرت العربة الأخرى ..
وكان الحادث مروعا فقطعوا الليل بصراخهم .. ثم صمتوا ومرت عربة فرأت حالهم ونقلت الخبر إلى نقطة المرور التى طلبت عربة الاسعاف فى الحال والبوليس للتحقيق ..
وجاءت عربة الإسعاف بعد ساعة .. وحملوا المصاب على المحفة ..
ووجدت من اللياقة أن أركب مع السيدتين والغلام عربة الإسعاف ولا أتركهم وحدهم فى هذا الليل وجلست بجانب السيدة الشابة على الدكة الخشبية والعربة تمضى فى الطريق وجرسها يقرع أذن الليل ..
وكانت السيدة منكسة رأسها ملتاعة وفى عينيها متحير الدمع وعلى خدها جرح قد غسل وطهر بحلول أحمر .. فزادها فتنة ..
وكانت تنقل عينيها بين الرجل المصاب وبينى .. وكنت مطرقا واجما .. استمع إلى حفيف الريح .. وأفكر فى ذلك الشىء السرمدى الذى يحركنا ولا نراه ويرسم لنا خط الحياة وفكرت فى القدر .. فكرت فى الموت والحياة .. وسمعت صوتا هاتفا خيل إلىّ أنه صوت الشيخ رفعت .. وكان يرتل القرآن بصوت حزين مؤثر بالغ حد الاعجاز فأغمضت عينى تماما ورحت فى دوامة من الأسى ..
وتحرك المصاب حركة يائسة .. فمدت السيدة إليه يدها وهنا لمحت خاتم الزواج فى أصبعها لأول مرة .. فأطرقت إلى أرض السيارة ..
وكانت السيدة الأخرى العجوز صامتة ووجهها جامدا والغلام نائما .. ورجال الاسعاف قد شغلوا عنا بالحديث فى شئونهم الخاصة ..
ووصلنا الإسكندرية وكانت متلألئة بالأنوار .. ألم تكن المدينة الجميلة تحس بما جرى فى الليل .. وهى مثل الحياة .. أبدا تسير ولا تعبأ بما يجرى فيها أو يتخلف عنها ..
ودارت السيارة وصعدت التل إلى المستشفى الأميرى ..
وبعدم اكتراث وبروح خالية من كل عاطفة انسانية تلقى الطبيب المصاب ..
وفى ردهة المستشفى رأتنى السيدة الشابة أروح وأجىء صامتا أخرس .. ورأيتها واقفة بكامل ملابسها كانت طويلة جدا ومحلولة الشعر .. وقد روعها الحادث وهز أعصابها ولكنها كلما واجهتنى ووجدتنى واقفا على باب المصاب .. كانت تود أن تقول لى :
ـ تفضل واسترح .. كفاك تعبا .. ولكن لسانها كان يخونها .. وكنت أعرف أن زوجها سيموت بعد ساعة .. ولا أحب أن أسمع صراخها .. فأغمضت عينى وجلست فى الردهة وكانت تسبح فى ذلك الضوء الباهت والسكون يخيم على المستشفى وأحسست بريح الموت فتسللت إلى الخارج ..
واتجهت إلى البحر .. وكان قلبى يهدر مثل البحر تماما وكنت أعرف أن الموج كفيل بأن يغسل أحزانها ولكن متى يحدث هذا ومتى أرجع إليها .. وأقرع بابها فى أمسية من أماسى الخميس ..




========================  
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
=======================
 


الغضـب



     خرج إبراهيم من المنزل فى الضحى .. وأخذ يسير فى شوارع القاهرة كالضال .. وهو شاعر بأقصى درجات التعاسة .. فقد ظل يبحث عن وظيفة منذ تخرج من الجامعة وطال البحث والتنقل بين المكاتب والدواوين دون نتيجة ..
     وكان فى جيبه ثلاثون قرشا ولم يكن يعرف بعدها كيف يواجه الحياة .. فقد باع كل ما يمكن أن يملكه بما يسد رمقه .. حتى كتبه باعها .. ولم يبق لديه شىء يباع وأصبح فى حالة قاتلة من اليأس والعذاب وسدت أمامه كل المنافذ وأظلمت الدنيا فى عينيه حتى فكر فى الانتحار كآخر وسيلة للخلاص مما هو فيه من بؤس ..
     وكان ينقل الخطو متثاقلا وفى رأسه الخاطر الأسود الذى أخذ يلح عليه ..
     ولاحظ لأول مرة وهو يمشى فى شارع سليمان باشا تجمعات الجماهير فى أكثر من مكان ثم ضوضاء وصخب وأخذت الضوضاء ترتفع ويعلو ضجيجها حتى اشتم رائحة الثورة من الأنفاس المتحركة فى الطريق .
     كان هناك شىء لم يدركه يجرى فى قلب القاهرة .. شىء لم يكن فى حسبانه .. ولكن حدوثه كان مقدرا بعد العناوين المثيرة التى فى صحف الصباح عن معركة الاسماعيلية بالأمس بين جنود بلوكات النظام والإنجليز ..
     اشتم رائحة الثورة وهو يتحرك وحده فى الشوارع الضيقة .. فلما أشرف على ميدان مصطفى كامل رأى أبواب المتاجر تتحطم .. والناس تتدفق كالسيل فى موج يدفعه موج .. فشعر بهزة وسار فى ركابها ..
     وكانت الجموع تزداد فى كل لحظة هياجا وغضبا .. وترتد عن الشارع ثم تعود إليه .. وبدا له جليا أنه لايحركها ولا يصدها أحد .. وأنها تتحرك من تلقاء نفسها بفعل الغضب وحده .. تتحرك وهى ترعد .. ومن عيونها يطل الشرر ..
     وكلما انتقل من شارع إلى شارع كان يسمع خبرا مثيرا وجديدا عن معركة الأمس .. كان يسمع خبرا يلهب حماس الجماهير ويزيد من غضبها ..
     ولما وصل إلى شارع " فؤاد " رأى لونا آخر من الغضب على وجوه الجموع الحاشدة .. رأى غضبا أسود لم يره من قبل ..
     رأى الأثاث يلقى من النوافذ والشرفات والنيران تشتعل فى المتاجر والبيوت ..
     وسمع الصراخ يقرع أذن الجوزاء وبدأت أجراس عربات المطافىء تدوى فى الشوارع .. جرس وراء جرس .. والخراطيم تمتد على الأرض .. والسلالم الطويلة تصل إلى السقوف ..
     وأخذ الماء يتدفق فى الشارع ويغسل واجهات العمارات العالية وامتلأت الطرقات بالهباب وبعروق الخشب المتساقطة والنوافذ المحطمة وقطع الزجاج المهشم ..
     وردته الجماهير إلى مكان آخر من نفس الحى .. وشاهد الجموع تجرى فجرى معها دون أن يدرى الغاية من العدو .. ثم توقفت وأخذت تسير فى صفوف متراصة وخيل إليه أنها أصبحت تسد عين الشمس ..
     ولمح خوذات رجال المطافىء النحاسية تلمع وضباب الدخان يملأ الجو وشعر بصدره يضيق من الدخان فانحرف إلى شارع عبد الخالق ثروت وهناك شاهد نفرا من الناس يحاول أن يحطم باب أحد المتاجر .. فوقف من بعيد يراقبها دون أن يشترك معها فى العمل ..
     ولما تحطم الباب الحديدى .. رآهم يتدفقون إلى الداخل وراقب العمل بطراوة وشاقه منظرهم الوحشى فأسرع اليهم ودخل معهم المتجر ورآهم يلتقطون المجوهرات والساعات فى لمح البصر ويحشون بها جيوبهم ..
     ودون أن يشعر أو يحس بما فعل امتدت يده سريعا ووضع " عقدا " من الجواهر الثمينة فى جيبه .. وأحس بالعرق وهو يفعل هذا ولكنه لما خرج من المحل .. عاد إلى نفسه ومشى هادئا فى الطريق ثم الفى نفسه يسرع ويخرج من الشارع ..
     وكان قد دخل فى قلب المعركة وشاقه العمل كله .. شاقه تدفق الجماهير فى الشوارع وحماستها وصياحها وصخبها بل شاقه النهب نفسه ..
     وكانت النيران تشتعل وأسقف البيوت تتداعى حواليه ..
     وسمع عن قرب صوتا مضطربا كان صوت الرصاص المنطلق والصراخ يمزق السكون ..
     وجاءت عدة طلقات فى تعاقب سريع ..
     وأدرك أن العمارة المجاورة تحترق .. ان حى البنوك يحترق فى الحال ..
     وكان شعاع الشمس يتخلل الدخان الاسود ..
     ودفعته الجموع إلى عمارة عالية فى الشارع وصعد السلالم معهم بقوة الدفع ..
     ولم يكن وهو يصعد يعرف الغرض من صعودهم وفى الدور الثالث توقف على البسطة ..
     وسأل شاب من الصاعدين ..
     ـ إلى أين نصعد ..؟
     ـ فوق .. انجليز فى الدور الخامس ..
     ـ لايوجد انجليز فى هذه العمارة ..
     قالها بسرعة دون أدنى تفكير ..
     ـ وكيف عرفت هذا ..؟
     ـ أعرف عن يقين .. لايوجد إنجليز هنا ..
     ـ بل يوجد فى الدور الخامس .. والناس كلها تقول ذلك .. ومن أنت أتسكن هنا .. ؟
     ـ أبدا ..
     ـ وكيف تنفى وجودهم إذن .. انك خائن .. جاسوس ..
     ـ جاسوس .. جاسوس ..
     وسمع الكلمة فارتعش قلبه .. وأحاطت به الجماهير .. وأحس بأنه يختنق .. وأخذوا يضربونه .. فأفلت منهم وجرى على وجهه إلى تحت ..
     وفى الشـارع كان يعـدو كالمخبـول ويسـمع الكلمة تلاحقه ..
     ـ جاسوس .. جاسوس ..
     فذعر وفر هاربا ..
     ووجد نفسه بعد أن انخلع قلبه من الذعر والعدو .. يدخل أول بيت صادفه .. ويصعد السلالم سريعا .. ووقف أمام شقة فى الدور الرابع .. وضغط على الجرس بهلع .. فقد كانت الأقدام تلاحقه على السلم .. وأطلت سيدة من وراء الباب .. وقبل أن تفتح فمها كان قد دخل والدم يسيل من وجهه وأغلق الباب ووقف وراءه .
     فنظرت إليه السيدة فى استغراب ووجل ولكن حالة الذعر التى كان عليها وصياح الجماهير وراءه جعلها تدرك حاله ..
     وسمع الأصوات على السلم تصيح :
     ـ أين ذهب ..؟
     ـ هرب .. ودخل شقة فى هذا الدور ..
     ـ فى هذه الشقة ..
     وأخذوا يقرعون كل الأبواب .. ولما قرعوا باب الشقة التى دخل فيها ابيض وجه السيدة ولم تفتح وحبست انفاسها وظلت فى مكانها جامدة .. وسقط إبراهيم فى هذه اللحظة مغمى عليه من الخوف .. لما تصور أنهم شرعوا يحطمون الباب ..
     وأخذت السيدة وخادمتها تحاولان اسعافه بكل الطرق وشعرت بهم وهم يهبطون الدرجات ويرحلون ..
     ولما أفاق إبراهيم وجد نفسه ممددا على كنبة .. والسيدة وخادمتها تسعفانه وتغسلان جراحه .. فتذكر ما حدث ونظر إلى السيدة فى ذلة كان يخشى أن تطرده بعـد أن اسـترد وعيه ..
     وسمعها تقول للخادمة ..
     ـ اعملى قهوة يا ستيته للأفندى ..
     ـ شكرا يا سيدتى لاداعى للتعب ..
     ـ القهوة تنفعك فى هذه الحالة .. اسرعى يا ستيته ..
     وعادت ستيته تحمل صينية القهوة
     وأخذ إبراهيم يترشف فنجانه فى تؤدة وهو يشكرها .. ولاحظ أن ملابسها خفيفة رغم برد الشتاء ..
     وكانت جميلة ريانة العود طويلة بيضاء البشرة ولاتزال رغم أنها تعدت الثلاثين سنة شابة فى نضارتها والدم الجارى فى شرايينها .. وخمن من السكون الذى طالعه من البيت أنها تعيش مع خادمتها ..
     وسألته وهى تنظر إلى عينيه ..
     ـ ما الذى فعلته ..؟
     ـ لاشىء اطلاقا ..
     ـ ولماذا يطاردونك إذن ..
     ـ اتهمونى .. بأنى جاسوس ..
     وضحكت ..
     ـ جاسوس يمكن أن يكون هذا صحيحا ..
     ـ صعدوا إلى عمارة فى الشارع المجاور وهم على حالهم من الغضب ورأيت السكان يطلون من النوافذ فى رعب قاتل .. فأشفقت عليهم من هذا الاعصار الذى يدمر كل شىء فى طريقه .. قلت لهم انه لايوجد انجليز فى العمارة فاتهمونى بالجاسوسية .. وكادوا يقتلوننى ..
     ـ الجماهير الثائرة لاعقل لها ..
     ـ وهل شاهدت النيران .. القاهرة تحترق ..
     ـ ومن الذى أضرم هذه النيران ..
     ـ المخربون والفوضويون .. وهم كالجرذان فى هذه الساعة ..
     ـ وغضب الجماهير يجعلهم يؤدون مهمتهم بنجاح ..
     ـ أجل .. الغضب الأسود ..
     وأخذت صاحبة البيت تتأمله فى سكون .. ولما بصر بالعذوبة فى عينيها والرقة فى حديثها أخذ يتأملها بدوره فبدا له جليا من لون عينيها وبشرتها ولهجتها أنها مصرية وغالبا تعمل فى الليل وتستريح بالنهار وخمن أنها راقصة فى ملهى أو غانية من بنات الهوى .. ولهذا اختارت السكن فى هذا الحى ..
     أخذت تنظر إليه فى حنان وعلى ثغرها ابتسامة جميلة ..
     وذاب تحت سحر نظراتها ..
     وفكر فى هذه اللحظة فى العقد .. وكان قد نسيه فى غمرة الحوادث التى مرت به .. وتحسسه فى جيبه فألفاه فى مكانه .. وعجب أن أيدى الجماهير التى سحقته وضربته لم تمتد إليه . وفكر فى أن يقدمه فى هذه الساعة إلى هذه السيدة .. ثم رأى أن يؤجل ذلك إلى حين ..
      وعجب لنفسه وهو يرغب فى الموت فى كل لحظة لماذا فر منه عندما وجد الموت محققا .. وعندما وجد الجماهير تود أن تفتك به .. أخشى من التعذيب أم لأن النفس عزيزة ولا تهون إلا فى حالة التفسخ والجنون ؟..
     وأخذ يتأمل حاله وكان كلما هم بالانصراف أبقته السيدة بكلمات طيبة شجعته على البقاء .. وكانت الساعة قد قربت من الثانية بعد الظهر ..
      وشعر بالخادمة وهى تعد سفرة الغداء .. ودعته إلى الطعام فلم يرفض لأنه كان يشعر بجوع شديد .. وجلس يأكل بشهية .. وهى تلاحظه وتقدم له الطعام بحنان ..
     ولما فرغ قال لها :
     ـ انها أشهى أكلة أكلها فى حياته ..
     فسرت احسـان من هـذا الاطـراء الذى هـز أعماق أنوثتها ..
     وكانت الخادمة ستيتة كما أمرتها سيدتها قد أغلقت جميع الأبواب والنوافذ ولما كانت الشقة داخلية ولا تطل على الشارع فقد بدت الردهة معتمة ..
     وكان كلما هم بالخروج أبقته السيدة احسان وقالت له أنها تخاف الآن ولم تشعر بمثل هذا الخوف فى حياتها .. بعد أن رأت النيران مشتعلة فى الحى .. والجماهير الغاضبة .. وترجوه أن يبقى معها هذه الليلة ما دام يعيش وحده فى القاهرة ولن ينزعج أحد لغيابه عن البيت ..
     ورأى من توسلاتها ونظرات عينيها أن يبقى ..
     وجلس يتحدث مع احسان حتى دخل الليل وأخبرته أنها تشتغل راقصة فى ملهى بشارع عماد الدين وأنها تعيش وحدها مع الخادمة .. وتذهب إلى المرقص فى الساعة التاسعة ليلا .. ولكنها هذه الليلة لن تذهب بالطبع .. وربما كان الملهى نفسه يحترق فى هذه الساعة فقد سمعت أن الحريق امتد إلى بناية مجاورة له ..
     ورآها جميلة وطيبة وعذبة الحديث وفيها رقة وصفاء فحزن لأنها تحترف هذه المهنة وتعرض جسمها عاريا كل ليلة للأنظار المتوحشة ..
     وسألها :
     ـ هل تربحين كثيرا من هذه الحرفة ؟
     ـ أبدا .. واخترتها بعد عذاب .. وجوع ..
     ونظرت إلى السـقف كأنها تحلم أو تسترجع شريط حياتها ..
     وقالت بصوت ناعم الجرس :
     ـ كنت متزوجة من شاب وسيم وغنى وكنت صغيرة .. وأطوع له من بنانه .. ولكنه خاننى أبشع خيانة ..
     ـ كيف .. ؟
     ـ كنت مريضة بالتيفود .. وطريحة الفراش .. وذات ليلة وجدته يحتضن الخادمة .
     ـ وتركته بعدها ..؟
     ـ أجل طلبت الطلاق .. وكنت وحيدة وفقيرة وأريد أن أشتغل فى أى عمل أعيش منه .. حتى غسالة فى البيوت .. لأصون نفسى من الدنس .. وأظل عفيفة .. ولكن .. أى رجل لايتقاضى ثمن خدماته للمرأة المسكينة !؟ ودفعت الثمن لأول رجل شغلنى فى مصنع للتريكو .. وبعدها هانت علىّ نفسى واحترفت الرقص .. وأنا أعيش مستقلة ..
     ـ ومسرورة بعملك .. وشاعرة بالراحة ..؟
     ـ لقد تبلد احساسى فى الواقع .. لم يعد له احساس الأنثى .. وأنا أمثل فى كل ليلة .. أتكلف الابتسام والضحك لأرضى الزبون ..
     وأمنيتى أن أقع على من يخفق له قلبى .. ويسمعنى كلمة حلوة مجردة من كل غرض ..
     ـ أو لم تسمعى هذه الكلمة بعد ..؟
     ـ أبدا .. ما سمعتها قط ..
     ـ ان هذا محزن فى الواقع ..
     ورفعت رأسها إلى عينيه وسألته :
     ـ لماذا يبدو وجهك شاحبا .. هل لازلت خائفا ..
     ـ ذهب عنى الخوف .. ولكن هذا من أثر الجوع ..
     ـ وهل أنت فقير إلى هذا الحد .. ولماذا لاتعمل ؟
     ـ فقير جدا .. ومنذ سنين وأنا أبحث عن عمل .. دون نتيجة ..
     ـ تعال عندى فى الملهى وأشغلك ..
     ـ فى أى وظيفة ..؟
     ـ سأجعلك تراقب الزبائن فى الصالة ..
     ـ لست من ذوى العضلات الحديدية حتى أصلح لهذا .
     ـ أى عمل .. أى عمل تحبه ..
     ـ يا سيدتى شكرا جزيلا ..
     وحدقت فى وجهه طويلا .. وقالت :
     ـ لا أدرى أين رأيتك من قبل .
     ـ وأنا كذلك أسائل نفسى هذا السؤال..
     ـ ولهذا لم يكن وجهك غريبا عنى وأنا أفتح لك الباب .
     ـ لقد نجيتنى من الموت .. ولا أدرى كيف أشكرك ..
     وتحسس العقد فى جيبه .. ثم أخرجه وقدمه لها ..
     وبرقت عيناها وحدقت فى عجب ..
     ـ ما هذا ..؟
     ـ عقد وجدته ملقى فى الطريق .. سقط من الذين نهبوا المتاجر ..
     ولم يشأ أن يقول لها أنه سرقه ..
     وسألته :
     ـ أنهبوا المتاجر ..؟
     ـ معظم الحوانيت فى هذه المنطقة .. نهبت وحرقت ..
     ـ يا ليتنى كنت هناك ، كنت ملأت بيتى بكل ما يعوذنى من تحف وجواهر ..
     وضحكت ..
     فقال :
     ـ أنزل .. وأملأ لك جيوبى ..؟
     ـ أتسرق ..؟
     ـ لقد سرقت ..
     ـ سرقت ..؟!!
     ـ نعم وهذا العقد سرقته .. لم أجده فى الشارع كما قلت لك من قبل ..
     واحمر وجهه ..
     ولاحظ أن لون وجهها شحب ونظرت إليه باشفاق ..        

     ـ ولماذا فعلت هذا وأنت شاب وأمامك الحياة الشريفة .. تشق طريقها بأظافرك ..؟

     ـ لقد فعلت ما فعل الناس .. وجدتهم يسرقون ويغشون ويكذبون .. ففعلت مثلهم ..
      ـ وهل الناس جميعا هكذا كما تصورت .. انك ناقم على المجتمع لأنك عاطل .. ولماذا تبحث عن وظيفة فى الحكومة .. ابحث عن عمل آخر وهناك عمل لكل من يكافح ..
     ـ ما الذى أفعله وأنا فقير .. والأجانب يسيطرون على كل الأعمال الحرة ويمسكون الخيوط فى أيديهم .. ولا أحد يستطيع أن يتسلل من هذا الحصار ..
     ـ هذا حق .. ولكن على المرء أن يسعى ..
     ـ لقد سعيت كثيرا وتعبت ..
     ـ داوم على الطرق ..
     ـ الآن وقد بعثت فى روحى الأمل سأداوم ..
     ـ ضع العقد فى جيبك ..
     ـ كيف .. اننى أقدمه لك ..
     ـ ضعه فى جيبك لا أحب أن تراه ستيتة ..
     ـ ولماذا تردينه ..؟
     ـ لتقدمه للبوليس .. قل أنك وجدته ملقى فى الطريق ..
     ـ سيقبضون علىّ .. هل أنا مجنون حتى أفعل هذا .. سيقبضون علىّ وأدخل السجن بسبب حماقتى ..
     ـ والآن أنت مستريح ..
     ـ كل الراحة ..
     ـ اذن خذه ..
     ونهضت ووضعت العقد فى جيبه .. كما كان .. وأحس بجسمها وهى تفعل هذا يلامس جسمه ويضغط عليه .. فأحس بلسع النار .. وظهر الاضطراب على وجهه .. ولكنه بعد قليل سيطر على عواطفه ..
     وانسابت بخفة إلى المطبخ وهى تقول :
     ـ سأعد العشاء بنفسى ..
     وجلسا يتعشيان فى غرفة الطعام وكان الليل قد قارب منتصفه والنيران مشتعلة فى الشوارع المجاورة والدخان يملأ جو السماء .. وكانت الخادمة قد تكورت فى فراشها منذ ساعات .. وبقيا ساهرين وحيدين وأحسا بالهدوء والألفة وكان قد عشقها من أول نظرة .. وبادلته نفس الاحساس ولكن بتحفظ المرأة المجربة ..
     وكان من عادتها أن تشرب قليلا من الكونياك مع العشاء .. فجعلته يشرب معها .. وشرب وأحس بالنشوة والشجاعة على محادثتها بكل ما يشعر به .. أفضى لها بكل أحاسيس نفسه .
     ولما حان وقت النوم فرشت له فى غرفة الجلوس ..
     وقالت له :
     ـ تصبح على خير ..
     واستدارت لتخرج من الغرفة فوجد نفسه تحت تأثير الخمر يطوقها بذراعيه ويطبع على خدها قبلة ..
     فأفلتت منه سريعا .. وقالت بصوت فيه رنة الغضب :
     ـ لماذا تفعل هذا .. أتحسبنى رخيصة وسهلة المنال إلى هذا الحد ..؟
     ـ ما فكرت فى هذا .. اننى ..
     ـ هل ظننت وأنت فى جيبك الثمن .. أنه من السهل أن تلقينى على الفراش ..
     ـ يا سيدتى أعتذر .. وسأخرج الساعة ..
     ـ تفضل ..
     وأخذ يرتدى سترته وكان قد خلعها لينام ..
     ومشى إلى الباب وقبل أن يفتحه أشفقت عليه من الليل والظلام وما يحدث فى الخارج .. وأمسكت بيده .. وجذبته إلى غرفتها .. وأغلقت عليها الباب ..
***     
     وفى الصباح استيقظ عندما لاح النور .. وهو يحس بسعادة دافقة أحس بأنه قضى معها ليلة العمر ..
     ولبس ملابسه سريعا .. وكانت احسان لاتزال نائمة .. وتعمد ألا يحدث أقل حركة توقظها ..
     وترك لها العقد بجوار الفراش وتسلل بهدوء .. وفتح الباب .. وخرج إلى الطريق ولم يكن يعرف أن التجول ممنوع فى هذه الساعة ..
     وقبل أن يخرج من الشارع .. حسبه جندى الحراسة .. لصا من الذين تسللوا إلى المتاجر التى تحطمت .. أبوابها .. فأطلق عليه النار .
وسقط فى مكانه
================================ 
نشرت القصة فى مجلة القصة عدد يولية 1964 وأعيد نشرها فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
=================================