الجمعة، 17 أبريل 2015



صقر الصحراء



كنا ثلاثة من الشبان الأشداء .. خرجنا من القاهرة فى سيارة جيب فى وسط النهار إلى قلب الصحراء ..
وكان الجو حارا والطريق صعبا .. والسيارة العتيقة تخب بنا خبا فى جو ينذر بالزوابع ..
وبدت الرمال من حولنا صفراء تلتمع من وهج الشمس الحامية وكثبان الرمال تذروها الريح ..
تلثمنا واتقينا الشمس والعاصفة ما وسعنا الجهد .. وكانت البيداء من حولنا لا يحدها الطرف ..
وكنا نعرف الطريق إلى البئر .. ولكنا نخشى العطب الذى يصيب السيارة ..
ولذلك أعددنا العدة بقطع الغيار اللازمة لكل الطوارىء ..
وكنا نحن الثلاثة نعرف فى ميكانيكا السيارات أكثر من معرفتنا بأمور الحفر فى البئر الذى نقصده ..
وكان البئر هناك فى أرض رملية على مبعدة 160 كيلو متر من المدينة ونود أن نطبق على التربة العذراء نظرية علمية معززة بالتجربة العملية .. وتجرى عليها الماء ونزرعها ثمارا وبطيخا مابلغنا القصد ..
وكان العمال يقومون هناك بأعمال الحفر .. والمحراث يقلب التربة .. وكل شىء قد هيىء للزراعة ..
وعندما قطعنا ما يقرب من ثلاثين كيلو متر فى قلب الصحراء .. كانت الشمس قد التهبت وزادت حرارتها .. وحبات الرمال بدت كجمرات من النار الموقدة ..
وأخذ الماء يغلى فى جوف السيارة ويتصاعد منه البخار فأخذنا .. نزوده بالماء البارد بعد كل لحظة خشية احتراق المحرك ..
ولم يكن هناك طير يحلق فى السماء ولا وحش فى الأرض .. وحوالى الساعة الثالثة بعد الظهر هدأت الريح وسكنت الزوبعة وبدت الرمال .. الساكنة .. هى الشىء الوحيد الذى يتنفس فى هذا التيه .. فلم يكن هناك زرع ولا ظل لزرع ..
وكنا قد رفعنا الغطاء فوق السيارة منذ اشتعال الشمس وهبوب العاصفة ..
وجلس أحدنا بجانب السائق .. وجلست وحدى فى الخلف مسترخيا حالما بالزرع النضير فى تلك البيداء .. التى بدت كأنها لا تتنفس فيها الحياة ..
وكان معنا زاد كامل من الطعام والشراب ولكن حتى عندما اقترب العصر لم نكن نحس بجوع .. وشربنا قليلا من الماء حتى لا نغرق فى طوفان من العرق ..
وكنا نحن الثلاثة ندخن بكثرة وكان السائق أكثرنا شراهة فى اشعال النار ..
وكانت الطريق خالية من السيارات تماما ولكن صعوبتها جاءت من أنها غير معبدة وكثيرة المتعرجات والمرتفعات فكنا نعلو ونهبط بعد كل خمسين ذراعا ..
وظهر للعيان أنها أقيمت على سلسلة من التلال التى يأخذ بعضها برقاب بعض وأن الذين اختاروا لها هذا المكان لم يجدوا ما هو أحسن منه ..
والذى يرتاد الصحراء يحس بالوحشة بعد ساعة واحدة من رهبة التيه وفرط السكون المخيم وأحسسنا بالوحشة من خلو الطريق وسكونه ..
وكان مع أكبرنا سنا بندقية صيد .. ولكنا لم نعثر قط على شىء نطارده .. ولم يكن الصيد قصدنا ولا مبتغانا فلم نبتئس ..
وكنا نحن الثلاثة فى سن متقاربة ولا نتجاوز الخامسة والعشرين من أعمارنا ولم نتزوج بعد ودار فى خلدنا ونحن نمضى فى هذا التيه أنه إذا غمرتنا الرمال فليس هناك من ولد يبكينا ولا زوجة تندبنا .. وأن المسألة ستمر بسلام ..
وبعد أن اجتزنا نصف المرحلة هبت نسمة من الهواء الرخاء انعشت نفوسنا ورطبت أفئدتنا ولكن بعد دقائق معدودات خنقتها الحرارة .. الخانقة .. وذابت فيها ..
وسرنا والعرق يسح والأرض ترمض بالشواظ ..
وكان لابد أن تستريح السيارة بعد ثلاث ساعات من السير الجاد .. فملنا بها عن الطريق .. ورفعنا غطاء المحرك ..
وأكلنا بعض الزاد وشربنا وبعد نصف ساعة تحركنا بمثل الحال الأولى ولكن الراحة القليلة أفادتنا كما أفادت السيارة ..
وكانت الرؤية واضحة والسماء أكثر صفاء وزرقة من أى ساعة شاهدناها فيها ..
وعندما مالت الشمس إلى المغيب لمحنا من بعيد قافلة من الجمال على الجانب الأيمن من الطريق ..
ولما اقتربت منا لاح راعيها بعصاه الطويلة وتمهلنا وغيرنا من سرعة السيارة مخافة أن تنفر الجمال على صوت المحرك .. أو أن تغير وجهتها وتعبر أمامنا الطريق وكنا فى واقع الحال نريد أن نملأ عيوننا منها .. كانت بيضاء جميلة وقد لوحت جلودها الشمس ..
كانت كلها مرفوعة الرءوس شامخة تحدث عن سلالة عربية أصيلة ..
ولما بارحتنا أسفنا لفراقها فقد أنسنا بها لحظات هنية ..
وبعد مرحلة طويلة من السير الجاد أدركنا أننا ضللنا الطريق وأننا نسير على غير وجهتنا ..
وتملكنا الهلع وتوقفنا ونحن نرمى ببصرنا فى كل اتجاه كأننا نلتمس المخرج من هذا التيه ..
وقر قرارنا بعد أن تبينا الملامح والمعالم التى حولنا والتى كانت جديدة علينا أن نستقبل من طريقنا ما استدبر حتى نرجع خمسين كيلو متر إلى الوراء .. ومن منعرج على الدرب نأخذ الطريق الصحيح إلى البئر ..
وفيما نحن ندور بالسيارة ظهر عند خط الأفق شىء أشبه بكوخ على ربوة .. فعجبنا لوجود مثله فى هذه البيداء القاحلة ..
وحسبنا أن أبصارنا خدعتنا فى مثل السراب ولكن لما دققنا النظر وجدنا الأمر جليا وظهر الكوخ بوضوح ..
ودفعنا الفضول والعجب أن نتجه إليه أولا إذ كان من الحكمة والصواب أن نسترشد بمن فيه عن معالم الطريق ..
وأخذنا الطريق إليه ولما اقتربنا ظهر بيت من طابق واحد .. وأمامه بستان من النخيل ولم يكن على الباب أحد ..
وترجلنا من السيارة ودرنا حول المكان فلم نعثر على إنسان ما ..
ثم تقدم أحدنا وقرع الباب .. فوثب على صوت القرع كلب ويبدو أنه كان نائما فى البستان وأخذ علينا الطريق .. ثم أخذ يتحرش بنا فى توحش فتراجعنا إلى الخلف مذعورين وصاح أحدنا مرعوبا ..
وخرج على الصوت شيخ طاعن فى السن وأطل من الباب بعينى صقر وكان يشتمل بحرام ويعتمد على عضد الباب ويطل من وجهه المرض ..
وزجر عنا الكلب ودعانا للدخول ودخلنا على التو .. لما تبينا أنه مريض وأن وقفته على الباب ستؤذيه ..
واعتذر الشيخ لمرضه ورجع إلى فراشه فى فناء البيت .. وهو لا يكاد يتماسك ..
وأبدينا أسفنا لأننا أزعجناه وهو مريض وحكينا له ما حصل من ضلالنا الطريق .. فبين لنا كيف أخطأنا .. وخشى أن نضل أكثر لو سرنا فى هذه الساعة ودخل علينا الليل .. واستحسن أن نقضى الليل فى ضيافته وفى الصباح المبكر .. نستأنف سيرنا ..
ولأن الشيخ كان فى حالة شديدة من المرض وهو فى هذا المكان رأينا أن نبقى بجانبه هذه الليلة لعلنا نقدم له كل عون ونساعده على الشفاء ..
وأشار بيده إلى الشاى والطعام فى الداخل فشكرناه بحرارة .. وقلنا له إن معنا زادا كافيا ..
وكان معنا اسبرين وبعض الأدوية التى تقى ضربة الشمس فصنعنا له شايا وقدمنا له الدواء ..
وحدثنا عن حياته وكيف يتاجر فى التمر والإبل .. وأن أولاده متفرقون فى الصحراء يسعون وراء معاشهم .. وأنه قد ماتت زوجته ويعيش وحده ..
وقد اعتاد على هذه الوحدة وألفها وأصبح يستأنس بالحيوان كما يستأنس بالإنسان دون أدنى فارق ..
ولما دخل الليل أشعل السراج ولشدة الحرارة نمنا جميعا فى العراء خارج الكوخ ..
وترك الشيخ بابه مفتوحا ونام فى مدخل الباب لمرضه .. وبعد الساعة العاشرة ليلا أخذنا النوم جميعا ..
وفتحت عينى على شىء أسود وقف على رأسى ولما أمعنت البصر فيه صرخت وعلى أثر الصرخة استيقظ رفيقى الذى معه البندقية ولكنه من فرط الرعب الذى انتابه وهو ينظر إلى الوحش ارتعشت يده ولم يحرك الزناد .. ثم أطلق طلقة طاشت ..
وكان الشيخ قد بصر بالضبع فى نفس اللحظة التى رأيته فيها وظل يجاهد ويتحامل على نفسه وهو مريض حتى وصل إلى مكان البندقية .. ورأيته ينتصب وقد التمعت عيناه ونضح وجهه عرقا ..
ونسى فى غمرة الانفعال مرضه تماما .. وخرج يشق الطريق فى الظلام إلى حيث الوحش ..
وكان كل من يراه وهو يمسك بالبندقية يدرك أنه رجل من طراز فريد فى رجال الصحراء وطواه الظلام ولم نعد نراه ..
وبعد قليل سمعنا صرخة وفزعنا ولم نكن ندرى أصرخته هو أم صرخة الوحش ولكن لم تمض لحظات أخرى حتى رأيناه راجعا وكان يمشى بتؤدة .. ويسحب شيئا أسود ضخما لايزال يقطر منه الدم ..
وكنا قد سمعنا كثيرا ونحن نتجول بسيارتنا فى هذه البيداء عن صقر الصحراء ولكنا لم نكن قد رأيناه عن قرب ..
========================  
نشرت فى مجلة القصة بالعدد رقم 9 فى سبتمبر 1964 وأعيد نشرها فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
======================== 




فى الغسق



كان يقف فى قلب الميدان يبيع الصحف للمارة فى حى تكثر فيه الحركة والعمل .. وسكانه على مستوى اجتماعى مرتفع وكثير منهم يتمرغ فى النعيم ..
وكان عبد العظيم يبيع الصحف العربية والافرنجية وعملاؤه من المصريين والأجانب ..
ومن النساء الأنيقات .. واللواتى يطلبن مجلات الأزياء المرتفعة الثمن ويدفعن بسخاء ورضى ..
وكان الجميع يعرفونه بصوته الجهورى .. ويحبونه لأمانته ونشاطه وحسن تصرفه وسرعة تلبيته لطلباتهم .. فما كان يخيب رجاء طالب لصحيفة أو مجلة مهما بعد بها الزمن ..
وكان فى الأربعين من عمره طويلا ممتلىء الجسم قويا أبيض مشربا بحمرة .. وعيناه سوداوان حادتان وفيهما بريق الذكاء وصفاء الطيبة ..
واعتاد أن يرتدى السترة والبنطلون قبل أن تخرج البدلة الشعبية إلى الوجود ويدعى لها .. لأنه يعمل فى حى افرنجى .. ولأنه أحس منذ حداثته بأن الجلباب يعوقه عن الحركة وهو يريد أن يجرى وأن يقفز كلما دعت الضرورة إلى الجرى والقفز ليلحق بالترام والأتوبيس فى شبكة مواصلات رهيبة وفى مدينة كبيرة كلها صراع على الحياة ..
وعلى الرغم من أنه يبيع الشىء المقروء من نتاج المطابع .. ولكنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب .. ولا ذنب له فيما جناه عليه الفقر ..
وكان بذكائه وفراسته يميز بين المجلات بدقة مذهلة حتى المتشابه منها لايفوت عليه فالأخبار غير الأهرام والجمهورية .. والرسالة غير الثقافة .. وآخر ساعة غير المصور فالسنداى اكسبريس غير السنداى تلغراف ونيوز اوف ذى ورلد غير البيبل .. والتايمز غير الأبزيرفر والبمتو غير الفيجارو ..
والصحيفة الأجنبية التى تبرز صور هانو وخروشوف وديجول وتشرشر وجونسون غير الصحيفة التى تبرز صورة كريستين كيلر وآفا جاردنر .. واليزابيث تايلور وشيرلى ماكليم ومع أن عمله فى حى قصر النيل ولكنه يسكن فى الامام .. ولأنه يسكن بجوار المقابر تولدت عنده عاطفة شديدة نحو الموتى .. وعاطفة مجنونة .. فكلما بصر بجنازة مارة فى الطريق أحس كأنما سرى فى جسمه سيال كهربائى .. فتراه يهتز وينتفض ويدع ما فى يديه وينطلق إلى قلب الجنازة .. ثم يتسلل حتى يصل إلى النعش .. وينحنى بسكون تحت الخشبة ليضعها على عاتقه ويسير مع الرجال ..
وهنا يحس براحة كبرى تغمر نفسه وتفيض على قلبه وجسمه فتزداد قوته وتزداد صلابته وكان فى أعماقه يشعر بأنه سيجازى من الله على هذا الصنيع خير جزاء ..
أما إذا كان الميت فقيرا معدما فكان يحس بأن له من الحسنة ضعف أمثالها .. وأنه سيجزى الجزاء الأوفى ..
وكأنما أراد الله أن تضاعف له الحسنات بوجوده فى هذا المكان حيث تخرج معظم الجنائز من ميدان التحرير وتسير إلى جامع الكخيا ..
وعندما تطورت الحياة المدنية الكبيرة وأصبحت العربات تقف بجوار المسجد لنقل الموتى بعد الصلاة إلى المقابر ابتأس عبد العظيم وشعر بغصة فى حلقه .. كأنه أخرج من الجنة فجأة ليلقى به فى النار ولكن الموتى الفقراء ظلت جنازتهم تسير إلى المقابر .. فى شارع القلعة بكل ما فيه من طول .. وعبد العظيم على عاتقه النعش وفى قلبه الفرحة وعلى وجهه الخشوع ..
أنه سيحمل يوما على أكتاف الآخرين .. ومنهم من يطلب له الرحمة كما يفعل هو الآن ..
وكانت الحياة الدنيا باحساسه مجازا إلى حياة أخرى جميلة .. ولذلك كان قانعا مثلج القلب .. مبتهج المشاعر ..
وبعد أن ينتهى من عمله اليومى يشترى العشاء لأسرته .. ويحمله على صدره حتى يبلغ به البيت ويجلس وسط طفله وزوجته يتعشى معهما ويضاحكهما وكان الطفل قد من الله عليه به منذ سنة بعد أن يئس من الانجاب وتصور أن امرأته عاقر .. وكان عبد العظيم يعنى ببيته عنايته بعمله .. ويدرك أن الوقت الذى يضيعه فى حمل نعش سيعوضه الله عنه فى رزقه أضعافا مضاعفة ..
وبرضى من النفس وراحة كان يعيش ويعمل فى العجلة الدواره ..
ولأن نصف عملائه من النساء المهذبات الأنيقات فقد تعلم منهن التهذيب والوداعة ..
وكن صبايا وجميلات ويلبسن أحدث الأزياء .. ويطلبن منه حاجتهن بصوت ناعم عذب كأنه تغريد العنادل ..
وكان يحمل للبعض منهن المجلات إلى بيوتهن ويتلقى منهن الابتسامة المشرقة وكلمة الشكر الرقيقة التى تنفذ إلى قلبه ..
وكان يعرفهن جميعا بأسمائهن ويعرف أزواجهن وأولادهن من كثرة اختلاطه بهن وتعامله معهن ..
ومن عشرات السنين كن جميعا أجنبيات فلما زحف المصريون إلى هذا الحى وسكنوا فيه .. سر عبد العظيم لأنه يتعامل مع أناس يتكلمون لغته ويفهمون مشاعره وأحاسيسه ورأى فى النساء المصريات نفس الأناقة ونفس التهذيب الذى كان يجده فى الأجنبيات وزاده احساسه الوطنى اكراما لهن وتضحية .. فالتى تطلب المجلة ولا تجدها عنده كان يحملها إلى بيتها بعد ساعة واحدة ولا يضنيه البحث .. أو يجلبها لها من غيره دون ربح .. مادام أنه يرضى رغبة مشتعلة فى نفسه دوما ليخدم الزبون على أحسن وجه ..
وذات مساء جلس فى مقابر " الخفير " بعد أن اشترك مع ثلاثة من الرجال فى حمل نعش رجل فقير ولم يواره التراب سواهم ..
وكان يحس بالرضى .. ولما كان متوضئا فقد رأى أن يجلس بين المقابر يسبح بحمد الله ويستغفر للموتى إلى أن تغرب الشمس ليصلى المغرب حاضرا ..
ولما غربت الشمس صلى واستغرق فى الصلاة إلى أن لف العشى المقابر وما يحيط بها فى شملته ..
وكان السكون عميقا وجو الخريف يغرى بالتأمل فى السماء والأرض ..
واستفاق من استغراقه على صوت سيارة تتسحب فى هدوء فى طريق ضيق بين المقابر وكانت على مدى أمتار منه .. فبصر بشبحين فى داخلها يتعانقان .. ثم توقفت السيارة وزادت حرارة العناق والقبل .. واشتط عبد العظيم غيظا .. من مخلوقين يعبثان بحرمة الموتى وقداسة المكان .. وانتصب على قدميه وهو فى أشد حالات الثورة .. واندفع نحو السيارة وفى أثناء ذلك كانت السيارة تدور وتخرج مسرعة من بين المقابر ولكن قبل أن تنحدر إلى الطريق الرئيسى تمهلت فى سيرها قليلا ..
وقد أعطت هذه الحركة البطيئة الفرصة لعبد العظيم ليقترب ويشاهد من بداخلها وأحس بلسعة فهو يعرف المرأة التى تركب بجوار الشاب وكانت سيدة متزوجة وتقيم فى الحى الذى يعمل فيه وكان يعرف زوجها ويحمل لها المجلات إلى الدور الخامس فى شارع بهلر .. ويصعد السلالم إلى بابها حتى والمصعد معطل كان يصعد ويصعد ويتلقى ابتسامتها ويلامس بيده الخشنة أناملها الناعمة وهى تعطيه النقود كانت أجمل سيدة مصرية فى الحى .. وتحمل وجه ملاك وعينين تفيضان عذوبة وطهرا .. وهى غنية وزوجها ليس مريضا ولا عجوزا فلماذا تخونه وتأتى مع عشيقها إلى المقابر ولا تراعى حرمة الموتى .. وأحس بالدنيا تدور به وتظلم فى وجهه وبثورة تجتاحه وتقدم نحوها كالمجنون ..
ولكن فى هذه اللحظة كان الشاب قد انطلق بالسيارة فى سرعة مجنونة وظل عبد العظيم يتبعه ببصره بعد أن يئس من اللحاق به ..
وهنا سمع صوت الفرامل تدوى وتمزق السكون ويسمع صرخة حادة .. وتوقفت السيارة .. فجرى نحوها بأقصى سرعة ..
وعرف أن سيارة الشاب صدمت صبيا وألقت به تحت العجلات وأمه التى تصرخ .. وتجمع نفر من الناس اعترضوا طريق السيارة ..
وفى صمت أمسك عبد العظيم بتلابيب الشاب الذى كان يقود السيارة والذى كان يجلس بجوار المرأة .. وسحبه إلى الخارج .. وأخذ يمرغ به التراب ..
ولما شعرت المرأة بالخطر .. خرجت من السيارة ونادت عبد العظيم باسمه لما عرفته .. واستغربت أنه بعد أن سمع صوتها ورآها عن قرب ازداد وحشية ولم يترفق به ..
وظلت فى مكانها مذهولة سادرة ..
ولما رأت الفاجعة تنقض .. والشاب يلفظ آخر أنفاسه ركعت متخاذلة على الأرض ..



================== 
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
=====================  


 









السائق



ركبت زورقا من الزوارق الصغيرة الناشرة شراعها والراسية عند شاطىء فندق كتاراكت القديم .. وكانت الأرض مكسوة بالعشب والضفاف الداكنة تمتد على مرمى البصر وحجارة الجرانيت السوداء تشق قلب النهر ..
وكان جو أبريل ممتعا للغاية والشمس ليست حامية والرمال الصفراء فى الجبل الغربى أخذت تتحول تحت أشعة الشمس إلى لون الزبرجد ..
وكنا نود أن نقوم بنزهة نيلية فى هذا الزورق قبل ساعة الغروب وعند الخزان ننزل منه .. ونعبر الخزان على أقدامنا إلى الضفة الشرقية وهناك فى انتظارنا سيارة ستقلنا إلى موقع السد ..
وكان الركاب الذين معى لايتعدون خمسة من السياح الألمان ومعهم سيدتان أنيقتان وكانوا قد فرغوا لتوهم من زيارة معبد الكلابشة الذى رفعه رجالهم منذ سنة واحدة وجاءوا مثلى إلى جولة فى النهر ..
وكان ربان الزورق رجلا فى الخامسة والأربعين من عمره له وجه أسمر وعينان تفيضان بالحياة .. وكان يحرك الدفة وهو منتصب بقامته .. والزورق يشق وجه الماء طوع يده .. وبدت الشطآن الرملية قريبة من الجانبين والمياه ساكنة .. والصخور أشد سوادا من الأبنوس ..
وشغل الركاب الأجانب بتصوير المناظر المحيطة منذ أقلعنا وأصبحنا فى عرض الماء وكانت أطول السيدتين وهى شابة جميلة فى مقتبل العمر قد انتبذت ناحية وأخذت ترسم بالفرشاة فى طواعية وابداع ..
وجلس فى مقدمة الزورق الملاح الوحيد وهو شاب أسمر طويل حاد البصر .. أخذ يرقب الزوارق المتحركة فى صمت .. وأشار علينا بجولة قبل أن نطلق الشراع إلى الخزان .. ذلك أن نرجع وندور بالزورق قريبا من قبة الشيخ " على " وحديقة النباتات .. ثم نأخذ الطريق إلى الخزان ..
وكان من طبعه أن يرقب الماء صامتا كأنه شارد .. أو ذهنه قد شغل بشىء آخر .. ولكن بصره كان ينفذ إلى الأغوار ووجهه يفيض بالايناس ..
أما الربان الذى طعن فى السن .. فقد كان خبيرا برغبات الركاب .. وأدرك بفطنته أننا نود أن نجتلى مجالى الطبيعة فأرخى الشراع .. وجعل الزورق يتهادى فى وسط النهر ..
وكانت الشطآن العارية تودع أشعة الشمس وأشجار النخيل القصيرة هى الشىء البادى على الشط ..
وأخذت حجارة الجرانيت الأسود تعترضنا فى سيرنا كلما قطعنا قليلا من الأمتار ..
ومر بنا الزورق وهو يتهادى تحت حديقة النباتات حيث زرعت كل الأشجار التى نبتت فى آسيا .. أشجار الأبنوس .. والماهوجنى .. وكل أشجار النخيل .. بكل جذوعها وألوانها .. وبدت الحديقة مزهرة من بعيد وأشجارها تتحرك مع نسمات .. الأصيل .. وظلالها تنعكس على صفحة الماء ..
وكان علينا أن نجتاز الجزر الصغيرة المعشوشبة .. وكانت أشجار النخيل .. تبدو متشابكة الجذور كأنها خرجت من جذع واحد ..
وكان السكون يخيم والطيور تغرد والسماء الزرقاء قد تحولت إلى لون اللازورد ..
وأخذت سحب خفيفة تتحرك فوقنا وتحجب وجه الشمس لحظات .. ثم تمضى لوجهتها .. وكان المنظر فى جملته أخاذا فسحرنى بجماله .. وانتقلت إلى مقدمة الزورق لأتلقى رشاش الموج ..
وفرغت الرسامة من رسم المناظر .. وجلست تدخن مثلنا وتتأمل وهى مسترخية .. وغمرنا شعور بالغبطة .. كان وجهها يعبر عن الراحة وتحقيق أمنية كانت بعيدة المنال .. إن كل ماحولنا وكل ماهو أمامنا .. وخلفنا بديع حقا ..
ولاحت من بعيد منطقة الخزان .. وكانت أنوار الكهرباء قد أضيئت فى كل مكان .. وشعرت بهزة ونحن نقترب فى هدوء من عيون الخزان .. وكان الماء يتدفق مع أربع عيون كالشلال أما العيون الأخرى فكان الماء يتسرب منها كالخرير ..
وتحول الزورق بجانب الشاطىء ..
وخرجنا إلى السيارة وكان فيها بعض الركاب يقصدون مثلنا منطقة السد .. وجلست بجانب شاب فى الثلاثين من عمره .. يعنى بهندامه ويلبس منظارا أحمر على عينيه .. ليتقى الضوء المتوهج فى هذه المنطقة .. وكان ودودا ومتحدثا فجذبنى بحديثه وخبرته بكل ما يجرى من عمل فى المنطقة ..
ولما اقتربنا من منطقة السد .. سمعنا أصوات الآلات الضخمة .. وكانت هناك خلية تتحرك فى سرعة تحت الأنوار الساطعة ..
وأخذ الشاب الجالس بجوارى فى السيارة يحدثنا عما يجرى حولنا ..
وسألته لما رأيت مبلغ خبرته :
ـ أتعمل هنا ..؟
ـ كنت أول سائق فى قافلة السيارات .. التى حملت الرمال والأحجار إلى منطقة العمل وأول من دخل بسيارته فى الأنفاق .. وتفجرت حوله المتفجرات ..!
ـ وأنت الآن فى ساعات الراحة ..؟
ـ أننى أتجول مع السائحين ..
ـ إنه عمل جبار ..
ـ فخر الأعمال كلها ..
شاهدنا الآلات الضخمة التى تحمل وتفرغ .. ثم السيارات تنقل الحجارة والرمال إلى منطقة العمل .. ورأينا الآلات تفرغ الحجارة .. والرمال فى الجيارة .. وهذه تحملها .. لتفرغها بطريقة آلية فى قاع النهر ..
وكان منظرها وهى تمتلىء ثم تتهادى فى النهر حتى تصل إلى المكان الذى تود أن تفرغ فيه شحنتها فتنقلب .. ثم تعود إلى وضعها الأول .. وتمضى إلى الشاطىء لتملأ من جديد .. كان هذا المنظر يسحر عيوننا فأخذنا نحدق فى الآلة فى عجب ..
بدت منطقة العمل جبارة .. والكل يعمل فى سرعة .. السيارات صاعدة ونازلة إلى الأنفاق .. وصاعدة ونازلة إلى السد العظيم والآلات والروافع والحواجز تتحرك فى سرعة وبطء لتبنى شيئا جديدا .. أو تجرف رمالا .. أو تفتت صخرا أو تنسف حجرا .. وكان صوت التفجير وسقوط الأحجار فى الماء يسمع هنا وهناك .. وشعرت بوجود التحول فى حياتنا والانطلاق وأنا أخطو كل خطوة .. ونظرت إلى المنطقة التى كانت منذ سنوات عبارة عن أحجار صماء ساكنة .. ورمال .. كيف تحولت الآن إلى منطقة عمل جبار .. وإلى حياة .. نظرت إلى العمال كيف يعملون .. إنهم يريدون تشييد السد .. ليزرعوا الأرض البور .. ويضيئوا القرى المظلمة بالكهرباء .. ويشيدوا المدارس فى كل مكان .. ويحولوا الحياة من السكون إلى الحركة .. إنهم يؤمنون بالمستقبل .. وأن الشرارة قد انطلقت .. والشعلة الكبيرة قد أضاءت ..
ووقفنا على رأس الطريق المؤدى إلى الأنفاق .. والدليل المرافق لنا فى السيارة قد أخذه الحماس .. وأخذ يشرح فى اسهاب كل ما حولنا من عمل ثم استأذن من الحارس الواقف على باب الجسر لنهبط .. فوافق وتعلق كل فريق منا بسيارة من السيارات الهابطة .. لأن سيارتنا لم تكن تستطيع النزول ..
وبعد أن شاهدنا الأنفاق عن قرب .. ودخلنا فى نفق منها إلى نهايته أخذت تتوقف سيارات العمل الصاعدة المنحدر لنصعد كما نزلنا ..
وكانت السيارات الصاعدة كلها فارغة .. لأنها تفرغ حمولتها من الأسمنت والخرسانة فى جوف الأنفاق وتصعد لتأتى بحمولة جديدة ..
وركبت واحدة من هذه السيارات بعد أن سمح لنا سائقها فى بشاشة .. وركب من الأمام بجانبى وملاصقا للسائق الشاب لابس المنظار .. وكان قد أصبح رفيقى فى كل الجولات .. وأركبنا الألمان مع ستة من الزوار ظهر السيارة .. وأدار السائق المحرك .. وأخذنا نصعد المنحدر ..
وكانت واحدة من السيارات الهابطة فى سرعة محملة بالمونة إلى أقصاها .. فأخذت المونة تسيل منها إلى المنحدر ..
وفجأة حدث شىء رهيب .. أحس سائقنا بأن العجلات التى تحته تدور فارغة .. وأن الفرامل تحت قدمه لا تستجيب له .. وأخذت السيارة فى ومضة عين ترتد إلى الخلف فى سرعة رهيبة وصرخ السائق بعد أن خرج الأمر من يده وهو يعلم أنه على شفا حفرة عمقها مائة متر ..
واضطرب حبل السيارات كلها الصاعدة والنازلة فى المنحدر .. ومنها من اختار بين أن يهوى فى المنحدر على اليسار .. أو يضرب فى صخر الجرانيت على اليمين .. وكلاهما أفظع الهلاك ..
وفى غمرة هذا الهرج .. تحركت يد قوية وخبيرة فى سرعة مذهلة .. ومزقت شبح الموت عنا جميعا ..
وكانت يد الشاب الجالس بجوارى فى السيارة واللابس المنظار .. فرفع فرملة اليد بقوة جبار خبير بعمله .. فوقفت السيارة فى مكانها صامدة وأوقفت كل العربات التى أمامها وخلفها والتى كان مصيرها جميعا الهاوية ..
***
وعندما وقف هذا الشاب هناك بمنظاره فى ثبات على رأس الطريق ينتظر إلى أن نركب جميعا سياراتنا ونعود فى أمان .. كانت كل العيون تحدق فيه وتحاول أن تسمعه كلمة شكر صادرة من أعماق القلب ..
ولكن الشاب لم يكن فى حاجة إلى شىء من هذا ..
وأخيرا أدركت ـ عندما صعد السيارة فى سكون خلفى ـ لماذا اختار أن يجلس فى أول مقعد خلف السائق مباشرة .. ولماذا يلبس المنظار .. فقد فقد بصره .. وكان أول من بذل أعز ما يملك فى سبيل أن ينتصر الإنسان بارادته على الطبيعة ويقوم بهذا العمل الجبار ..


====================== 
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
======================    

خيط من النور 

فتح عينيه فألفى الظلام يخيم على الغرفة .. فأصابه ما يشبه الذعر .. إذ كان يود أن يغادر القاهرة فى قطار الساعة السادسة إلى الإسكندرية .. ليكون بنجوة هناك من كل مطاردة ويختفى عن العيون ..
وكان النوم قد غلبه وهو جالس على السرير .. لارهاقه الشديد وشعوره المجسم بالحادث الذى تجلى له مروعا حتى زلزل خواطره .. وسد كل المنافذ فى وجهه .. فهرب من الواقع المروع بجسمه ونفسه .. واستغرق فى نوم طويل ..
ٍوعجب شوقى لكونه ينام فى هذه الساعة العصيبة .. ولكن أعصابه المرهقة طوال الأيام الماضية .. كانت فى حاجة فى الواقع إلى هذا الاسترخاء الطويل وأفاده النوم فعلا ..
وفتح عينيه وهو يحس بأنه صلب .. وأنه قادر على مجابهة الأمر بعد أن كان قد انهار كلية فى النهار وكاد أن يسلم نفسه ..
وكانت الغرفة سابحة فى الظلام .. ولكن نافذتها الوحيدة المطلة على الشارع الخلفى كانت بمثابة حلقة اتصال بالعالم الخارجى .. فحدق وهو مسترخ على الفراش فى العمارة المواجهة .. وكان بياضها قد ضرب إلى السمرة من فعل الزمن .. واستقر بصره على شرفاتها ونوافذها وكان بعضها مضاء من خلال الشيش المشرع .. وبدأ الزجاج يلتمع من سقوط المطر وأحس بالرغبة فى أن يقوم من الفراش .. ليرى مقدار البلل الذى أصاب الشارع .. ويعرف حالة المطر .. هل كان رزازا أو سيلا منهمرا ..؟ ولكن الضعف والخمول ولزوجة الفراش منعته من الحركة ..
وأحس بالعرق الغزير يبلل الفراش مع أنه خلع سترته قبل أن ينام .. ورأى أن يبقى بالقميص والبنطلون ليكون على استعداد تام لكل الطوارىء .. ولكن الخوف زاد من افرازات العرق كما أنه دفع الغطاء وكوره فوق رأسه وهو نائم كأنه يحتمى به من كل ما يأتى به القدر ..
وحرك البطانية جانبا .. واضطجع وقد جعل رأسه ناحية الباب بعد أن أحس بحركة النزلاء فى البنسيون .. وكانوا قد تجمعوا فى الحجرة الخلفية ليلعبوا القمار كعادتهم .. وسمع صوت مدام سوزان صاحبة البنسيون وضحكاتها ثم صوت ابراهيم أفندى .. وكان أكثر النزلاء تحمسا للعب .. وهو الذى يجمع رفاقه على المائدة من الساعة التاسعة ليلا ويظلون فى لعب القمار حتى الصباح ..
وكان ابراهيم هذا أرملا .. ومنذ ماتت زوجته وهو يعيش فى البنسيونات والفنادق مضطربا فى معيشته ويبدو تعسا وحيدا شاعرا بالفراغ القاتل ..
وكانت سوزان صاحبة البنسيون تشاركهم فى اللعب أحيانا ومعها سيدة شابة من شقة مجاورة فى نفس العمارة .. وذلك فى الحالات التى يحمى فيها وطيس اللعب .. وتكون متأكدة من اخراج مبلغ مناسب للمائدة التى يلعبون عليها .. وكان يقر فى حسبان سوزان دوما أن فى مائدة القمار والحسان اللواتى يجلسن حولها إغراء للنزلاء على البقاء بالبنسيون والتعلق به وعدم تركه إلى غيره .. والبنسيونات والغرف المفروشة فى القاهرة كثيرة جدا ..
ولخبرتها بالرجال ولباقتها لم تلح على شوقى فى أن يلعب القمار مع النزلاء لما وجدت أنه لا يحب ممارسة هذه اللعبة ..
كما أنها لم تقصر فى العناية بشوقى فى بيتها بسبب أنه يدفع أقل من النزلاء أجرا بل كانت تعنى بفراشه وبنظافة غرفته كأى نزيل آخر يدفع ضعف أجره ..
وكانت تحنو عليه وتنزله من نفسها منزلة خاصة لشبابه وصباحة وجهه .. إذ كان هو الشاب الوحيد وبقية النزلاء من العجائز ..
كما كان هو الوحيد الموظف فى الحكومة .. ويدفع لها أجر الغرفة بانتظام .. وأكثرهم استقرارا .. إذ مضى عليه فى بيتها أكثر من سنة وغيره من النزلاء كالقومسيونجية والعابرين لايمكثون أكثر من شهرين أو ثلاثة .. كانوا يتعبونها لكثرة تنقلهم .. ولأنهم يدفعون شهرا ويؤجلون الدفع أشهرا ..
وكانت مستريحة لشوقى راضية عنه لأنه هادىء الطباع قليل الزوار قليل المطالب .. وكانت قد بصرات به فى هذه الليلة .. وهو مستغرق فى النوم من وقت الظهر على غير عادة ففتحت عليه الباب برفق وهو نائم ثم ردته لما رأت استغراقه وأدركت أنه متعب فتركته ليستريح .. ولما فتح شوقى عينيه كان صوتها هو أول صوت وصل إلى سمعه فبقى فى مكانه يحدق فى الظلام .. فوجد سترته ملقاة كما اتفق .. وبعض الكتب على المنضدة وبجوارها دورق وكوب والنافذة مشرعة .. ولاحظ فى البيت المقابل حركة ليلة الأحد .. إذ كانت معظم الشقق مضاءة وكانت العمارة عالية حتى حجبت عنه نجوم السماء وهو فى مكانه على الفراش ..
ولما نهض من السرير وجلس مستريحا على الكرسى تحت النافذة مباشرة .. رأى جانبا من السماء والنجوم تطاردها السحب وأنس إلى أنوار العمارة المقابلة وتحرك سكانها .. ودار فى خاطره أن المطر قد انقطع منذ ساعة واحدة وأن الليلة شديدة البرودة .. والسماء أخذت تدكنها السحب السوداء ..
وشعر أنه أحسن حالا بجلوسه على الكرسى .. وارتدى سترته على عجل فشعر بالدفء .. وزايله بعض الاحساس بالقلق ..
وطافت فى رأسه صورة عفاف .. وهى زوجة رجل سكير مقامر يقيم فى نفس البنسيون .. وكانت تلاحقه برغباتها الكبوتة وهو يصدها برفق .. وخشى لو دخلت عليه الغرفة فى هذه الساعة أن يضعف ويستجيب لرغباتها ..
وفتح عينيه جيدا .. وظل يحدق فى الباب بقوة والأفكار تعصف برأسه وتقوده إلى الشرود .. أنه يتعذب ..
وأحس بحاجته إلى أن يذهب إلى دورة المياة .. فخلع سترته .. ومشى إلى الباب دون أن يضىء المصباح ..
وأحس بالبرد فى الغرفة .. وبحركة النزلاء الساهرين على مائدة القمار .. ولمح قبل أن يدفع باب الحمام .. " روحية " نائمة فى المطبخ وكانت متكورة على البلاط ومعراة الفخذين وهى ترتعش من البرد .. فشعر بالأسف لحالها ..
وأسرعت نبضات قلبه .. وثبت بصره عليها .. أن هذه الفتاة معه فى نفس البنسيون منذ سنة وأكثر .. وهى أجمل من وقعت عليه عيناه فى كل النساء فى داخل البنسيون وما يجاوره من البيوت .. وقد أشفق عليها لما رآها مهضومة الحق وسيدتها لا تقابلها باشة ولا تترفق بها ..
ودخل الحمام .. وأخذ يغتسل وهو يحس ببرودة الماء على أصابعه ووجهه .. ولكنه أحس بأنه أفاق .. وذهب عنه الشرود ..
وتولد عنده احساس قوى لأن يرى الشارع ويرى الدنيا فى الخارج وماذا حدث لها وجرى فيها .. فأطل من نافذة الحمام الصغيرة بعد أن أغلق مفتاح النور ..
كان الليل شاحبا .. وكان الشارع يعج بالسيارات تحت المطر .. ولم يكن بين المارة ولا فى الحركة المتصلة توقف ولا أدنى احساس لما حدث فخمن أن العسكرى الإنجليزى لم يصب من القنبلة وأنها ذهبت هباء .. ولم تحدث أثرا يذكر .. وأخذ يستعيد فى ذهنه الصورة بكل دقائقها وتفاصيلها وأدهشه أن يستعيد كل شىء رغم ما فى ذلك من ألم ..
وسمع وهو راجع إلى غرفته ابريقا يئز على النار فى المطبخ .. فأدرك أن نزيلة تعد لنفسها الشاى ..
ولما جلس على سريره بعد أن أغلق الباب بالمفتاح .. تلاشى شعوره بالاستقرار .. وأخذ يحدق فى الظلام .. وفى النافذة المطلة على الشارع وعلى الجانب المقابل .. أخذت أنوار الحجرات تخفت .. ويغمر الظلام كل واجهات البيوت ..
وتولدت عنده كراهية للسياسة .. ولعن الساعة التى انتمى فيها إلى الحزب ولعن كل الأحزاب الموجودة .. وساءه أكثر أنه اشترك مع اثنين آخرين فى القاء القنبلة .. وكان قد سمع أن أحدهما قبض عليه فى مكان الحادث .. وقد يعترف ويذكر اسمه .. وأنهم الآن يبحثون عنه وارتجف قلبه ..
كانت أعصابه قد توترت .. ثم عادت وتماسكت بعد أن كان عنده احساس مدمر بالقلق والتعاسة المرة ..
كان كل ما يحسه .. هو مزيج من الحاجة إلى النوم أو الاسترخاء .. أو الحاجة لأن يدفن رأسه فى صدر امرأة ويطلق توتر أعصابه ..
وأحس بالظلام يلف وجدانه ومشاعره وكل أحاسيسه .. وغمره احساس بأن السياسة عبث والحياة عبث ووجوده كله عبث ..
أحس بأنه يرى قوة أكبر منه آتية لتحطمه ولتسحقه .. ولا قبل له بردها ولا صدها ..
كان مضطجعا يحدق فى الظلام وهو عابس الوجه .. ويحاول أن يحلل الخوف ويحلل مشاعر نفسه ..
ورجع فى تلك اللحظة يفكر فى الفتاة المسكينة روحية التى تعمل خادمة عند سيدة مصرية متزوجة .. وكانت السيدة تريد أن تتخذ من البنسيون بيتا تطبخ وتعمل به كل شىء كأنها فى بيتها الخاص فجاءت بهذه الفتاة معها .. ولكنها لم تحسن معاملتها .. وكان شوقى يشعر نحو الفتاة بعاطفة إنسانية دافقة .. ويتألم لحالها وهو يراها نائمة فى المطبخ على البلاط فى ليالى الشتاء .. وفوقها غطاء خفيف وتحتها شىء أشبه بالحصير لا يقيها شر الرطوبة ولا رعشة البدن فى الليل المقرور ..
وعلى توالى الأيام .. تحولت الشفقة إلى حب .. حب متمكن من شغاف القلب .. وكانت الفتاة تراه وحده فى الغرفة لا يختلط بسكان البنسيون ولا يزور أحدا ولا يزار .. فآنست لوحدته .. وكانت تحمل له دورق الماء وكوب الشاى .. وإذا رأته يغسل جوربا أو منديلا فى الحمام تناولته منه بسرعة وغسلته ونشرته وهى تنظر حواليها خوفا من أن تراها سيدتها فتؤنبها على هذا العمل وربما تشتمها وتسمعها الكلام الموجع ..
وكان شوقى إذا عاد من عمله ولم يرها أو يسمعها فى داخل البنسيون يحس بالوحشة وبالاشتياق حتى تعود من الخارج .. وأول شىء تفعله وهى راجعة هو المرور على بابه لتتأكد من وجوده فإذا وجدته أشرق وجهها وفاض البشر على محياها وحيته وانصرفت مسرعة إلى عملها .. كانت لهفتها واشتياقها إلى لقائه تفوق لهفته واشتياقه ..
وفى الساعة التى يذهب فيها سيدها بصحبة سيدتها إلى السينما أو إلى أى غرض فى الخارج .. كانت تمضى الوقت كله فى غرفة شوقى ويحسان فى هذه العزلة الحبيبة بالامتزاج والنشوة والحب ..
وأحس بأنه شغل عنها فى أيامه الأخيرة بالحادث السياسى .. فلما فرغ منه وقرر الهروب إلى الإسكندرية أختلى بها وحدثها برغبته فى أخذها معه ..
وسألته برقة واستغراب :
ـ أروح معك إسكندرية ..؟
ـ نعم ..؟
ـ إزاى ..؟
ـ سنعيش سوا ..
ـ لكن أنا خدامة يا سيدى ..
ـ لا أحب سماع هذه اللفظة .. ولا تقوليها لى أبدا ..
ـ أمال أقولك إيه ..؟
ـ شوقى ..
ـ شوقى بس ..؟
ـ بس ..
ـ لكن أنت سيدى ..
ـ لا تقولى هذا الكلام .. ولا يوجد أسياد وعبيد فى العالم .. الله خلق الناس سواء فى هذه الدنيا ولكنا نحن الذين نفرق بينهم .. ونجعلهم طبقات بحماقتنا وغرورنا .. الإنسان عندما يتجبر يطغى .. ولا يقف طغيانه عند حد .. كما يطغى الإنجليز الآن .. ويحاولون أن يستعبدونا ولكنا سنوقف طغيانهم ..
وتحمس ومد قامته بعيدا .. وبدا أمامها قويا وأعجبت لحماسته وقوته ..
واقترب منها واحتضنها .. ومسح على شعرها بحنان وحب .. وسألها :
ـ ستسافرين معى إلى الإسكندرية ..؟
ـ نعم وإلى أى مكان ..
فقال هامسا :
ـ فى ساعة الفجر .. سنفتح الباب بهدوء ونخرج معا .. فاعملى حسابك وكونى صاحية ..
ـ مش حنام أبدا ..
وتركته ..
وظل هو متيقظا يرسم خط سيره وتحركه .. والمكان الذى سيقيم فيه فى الإسكندرية بعيدا عن العيون .. وكان معه حوالى ستة عشر جنيها سيقطع منها ثمن التذكرتين والباقى يصرفانه حتى يتدبر حالته .. ويشتغل هناك فى أى عمل .. والمدينة كبيرة ولن يجوع فيها .. وستبقى روحية فى البيت .. لن تشتغل فى أى مكان وسيتزوجها ويعمل على اسعادها ويرفع من كيانها وانسانيتها ويرد لها حقها المسلوب ..
وفتح شوقى باب البنسيون وكانت الساعة قد تجاوزت الخامسة صباحا بقليل ولا يزال الظلام يخيم .. ودفع الفتاة أمامه بحذر على السلم ونزل وراءها ..
وفى مدخل العمارة لمح شيئا جمد له قلبه .. فقد رآهم يرابطون على الباب وأخذوا يقبلون نحوه بخوذاتهم النحاسية وفى أيديهم البنادق .. وكان يتقدم القوة اثنان من الكونستبلات الإنجليز وبدا له جليا أنهم قبضوا على رفيقه وأنه هو الذى وشى به ودلهم على مكانه .. وكان ابداء أى مقاومة منه معناه .. صرعه وصرع الفتاة المسكينة فظل ثابتا فى مكانه حتى طوقوه ..
وعندما وضعوه فى البوكس .. ظلت الفتاة واقفة وحدها على عتبة الباب تصرخ ولم تكن قد فهمت شيئا .. ولكنها ظلت مع ذلك تصرخ بحرقة وكان صراخها يمزق نياط القاب ..
وكان شوقى يسمع صراخ الفتاة والنور يشع من خلال الكوة فى العربة المغلقة .. وظل يفكر فيها وفى صراخها وعذابها وهو فى العربة .. وومض فى رأسه خيط من النور أضاء له الطريق للهرب والعودة إليها ليخلصها من العذاب ويخلص نفسه .. قبل أن يضعوا فى عنقه الحبل ..

====================== 
نشرت فى مجلة القصة بالعدد 13 فى يناير 1965 وأعيد نشرها فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
======================= 
    

حقل البطيخ



كانت قرية العمارنة مشهورة بحقول البطيخ .. وكانت تزرع أجود أنواعه وأحلاها على الاطلاق ..
وتقع الحقول فى أرض رملية على سيف النيل ..
وكانت الأرض ملك الحكومة وتؤجرها لأحد الأثرياء بإيجار زهيد .. ولنفوذه وسطوته استغلها أبشع استغلال وأخذ يؤجرها للفلاحين بعشرة أضعاف القدر الذى يدفعه .. وقسمها إلى قطع صغيرة ليسهل عليه توزيعها على أكبر عدد منهم بايجار فاحش ..
وكان يسلط عليهم سوط العذاب فإذا تأخر أحدهم عن الوفاء يوما واحدا حجز على المواشى والمحاصيل .. وفى كل مطلع نهار يرون وجه الصراف بدفاتره وأوراقه ..
وكان الأمل يلوح فى أفق حياتهم بعد كل ثلاث سنوات فيسمعون أن الأرض ستؤخذ منه وتعطى لغيره .. فيشعرون بقرب الخلاص .. ولكن الزمن كان يخيب آمالهم دائما فتعطى له الأرض من جديد بمزاد صورى يعمل فى البندر .. وظلت الحال هكذا حتى يئس الفلاحون ..
ولم يتنفسوا الصعداء إلا بعد أن قامت الثورة وطرد هذا الثرى من الأرض .. ووزعتها الحكومة عليهم فأعطت فدانين لكل أسرة ..
والمحظوظ منهم من وقع نصيبه فى أرض الساحل .. لأنه يزرعها بطيخا والبطيخ يأتى للفلاح بدخل طيب ..
وكانوا يبكرون فى الزراعة قبل أن يرتفع مستوى الماء فى موسم الفيضان فيأكل الزرع .. ويجيدون تخطيط الأرض .. فتبدو الحقول المزهرة فى خطوط مستقيمة .. كأنها خطت بالمسطرة على لوح من الورق ..
والمشاهد للمزرعة من المارين تحتها فى المراكب والصنادل كان يؤخذ بجمالها ويرى أنها من المزارع النموذجية ..
وكانت تمد الأسواق فى منطقة الصعيد بأجود أنواع البطيخ وأكثره حلاوة ..
وكانت الكلاب الكبيرة تحرسها ولكل حقل خصه وكلبه ..
ووراء هذه الحقول فى الأرض العالية يقوم بستان كبير من شجر النخيل والسدر والسنط .. وخلف هذا الجسر العمومى ..
ومن الجسر تأتى العربات وتحمل البطيخ الذى يتكوم فى طرف من البستان .. كان بمثابة السوق لهؤلاء الفلاحين وفيه يتعاملون مع التجار ..
وفى شهر يونية من كل عام يبدأ قطف الثمار الناضجة .. فترى الفلاحين فى الصباح منتشرين فى الحقول .. وأيديهم تضرب على البطيخ قبل قطعه من العروش .. فإذا استوى فى نظرهم .. وتحت سمعهم بعد جسه باليد .. قطعوه وكوموه .. وحمله الصبية على ظهور الحمير والجمال على الجسر ..
وكانت القرية على بعد ثلاثة فراسخ من المزرعه ..
وتبدو فى موسم البطيخ مهجورة .. لأن الحياة كلها تتحول إلى جانب النهر ..
وكان حقل عبد الغفار يأتى بأجود المحاصيل اطلاقا فى هذه المنطقة ..
وكان عبد الغفار يزرع البطيخ والشمام عن خبرة ويقصر زراعته عليهما فاشتهر بهما وأجاد .. وكان ودودا طيب القلب أمينا يتفانى فى خدمة الناس .. فأحبه الفلاحون وعهدوا إليه بمحاسبة التجار وأخذ الثمن منهم وتوزيعه عليهم كل حسب حصته ..
وكان له أربعة من الأبناء الأشداء أصغرهم فى العشرين من عمره وفيهم كل صفاته فساعدوا والدهم فى عمله ..
وجعلوا خصه أجمل خص فى المزرعة .. وبمثابة منتدى للفلاحين جميعا .. فكانوا يتجمعون حوله فى أوقات العصر .. يتحدثون فى شئونهم ومشاكلهم .. وهم يشربون الشاى ويدخنون السجائر أو يفتلون حبال الليف أو يعملون المرابط والشواغل .. للجمال .. استعدادا لعمل الشتاء ..
وكانت الطبيعة تجود على المكان بأجمل مناظرها .. فالنيل يجرى كاللجين تحت أقدامهم والسماء الزرقاء الصافية فوقهم .. والشمس ترسل شعاعها الأصفر على المزارع وعلى صفحة الماء .. فتحول كل شىء إلى لون العسجد .. والطيور والعصافير .. تحلق فى الجو .. وتغرد ..
والكلاب تتوثب وتتمرغ على الرمال الناعمة ..
ويبدو الجميع كأنهم فى عيد .. وموسم البطيخ فى الواقع عيد الأعياد لهؤلاء الزراع .. فالنقود تجرى فى أيديهم .. يشترون المواشى والملابس الزاهية .. والمراكيب الجديدة .. والمذارى والفئوس .. ويصلحون النوارج والمحاريث ..
وعلى الرغم من أن القرية آمنة وأهلها مشغولون بمعاشهم .. فإن الفلاح فى كل هذه المناطق يحمل السلاح .. فالبندقية السريعة الطلقات حلت محل الهراوة والنبوت .. لأنه يسوق مواشيه وحده فى الليل .. ويعود بها من السوق .. ويحرس بها الأجران والأقطان ..
وفى عصر يوم تجمع حول خص عبد الغفار نفر من الفلاحين كعادتهم .. وأخذوا فى فنون الأحاديث عن التقاوى الجديدة .. التى زرع منها عمار فى هذه السنة نصف فدان .. فأتت ببطيخ كبير الحجم ولكنه قليل الحلاوة ..
وعن عليان الذى شق بطيخة وتركها فى الشمس .. ثم ذهب لبعض شأنه .. ولما رجع وجد البطيخة باردة كأنها مثلجة وعذبة المذاق جدا .. ولكنه وجد ثعبانا كبيرا يحاول الاقتراب منها ..
فمثل هذا البطيخ تحبه الثعابين إلى درجة شديدة ..
وأخذ كل واحد من الموجودين يروى رواية عن حب الثعبان للبطيخ وكيف يلعقه بلسانه بلذة وشغف .. حتى تعددت الروايات عن الثعابين وجاوزت المائة ..
وفجأة ظهر شىء جديد فى الأفق شخصت إليه الأبصار .. شىء بدا كأنه يسبح فى الجو .. ظهر جواد أحمر كان ينطلق فى الطريق الزراعى فى سرعة الريح .. وبدت قوائمه من فرط سرعته كأنها لا تمس الأرض ..
وكان راكبه منتصبا فوقه فى سكون .. ومرتديا جبة زرقاء ولبدة بيضاء ..
ويبدو فى جلسته على الحصان فارسا من أمهر الفرسان على الخيل ومال به عن الطريق واتجه فى السيف الصغير المفضى إلى حقول البطيخ ..
وظلت العيون معلقة به حتى اقترب وهو يهدىء من سرعة الجواد ..
ولما صار الفارس حذاء الخص عرفوا أنه غريب .. ودار دورة بالفرس .. ثم ترك اللجام وترجل .. ومشى إليهم .. وصافحهم فردا فردا ..
ثم أخذ مجلسه بجوار عبد الغفار .. الذى رحب .. وقدم الشاى والسجائر لضيفه .. وأخبره الفارس عن المهمة التى جاء من أجلها .. إذ أنه يرغب فى مقابلة فلاح يدعى محفوظ وله حقل فى هذه المزرعة لمسألة تتعلق بقطعة أرض أخرى وراء شريط السكة الحديد ..
وأرسل عبد الغفار ابنه عثمان على جحش على التو ليأتى بمحفوظ من البستان .. وظل الجواد فى مكانه وجلده يلمع فى الشمس ..
وكان يحرك رأسه الجميل وينظر إلى ناحية النيل .. ثم يعود يرد البصر إلى الحقول ..
وعيون الفلاحين معلقة به أكثر من نظرها إلى الفارس الذى يركبه .. وأزاح الفارس كوفية حريرية بيضاء عن عاتقه ووضعها على الحرام الذى جلس عليه متربعا .. وهو ينفض المكان بعينيه النفاذتين ..
كما ترك بندقية قصيرة فى الجزء الأمامى للسرج ..
وربض كلبان من كلاب الفلاحين المتوحشة .. أمام الجواد كأنهما يحرسانه من العيون المحدقة به ..
وجلس الفارس يتحدث وعيناه على البطيخ الناضج والمزرعة التى تبدو كأحسن المزارع التى شاهدها فى حياته ..
وبدا الجو رغم اقتراب الأصيل وانحار الشمس خانقا شديد الحرارة .. ولكن الفلاحين اعتادوا على مثله وما هو أشد منه وطأة ..
وكانوا يحتمون بالظل .. أما الذين كانوا لايزالون فى قلب الحقول إلى تلك الساعة فكانوا يكتفون بعصب رءوسهم اتقاء لضربة الشمس الحامية ..
وكان عرقهم وتحرك عضلاتهم مع الفئوس يقيهم كل ما يصيب الإنسان من الجو الحار ..
وكانت الحرارة الشديدة قد جعلت الماشية تبترد على شط النيل أو تحتمى من الهجير بظل البستان ..
وظلت الكلاب هى الوحيدة التى تلهث فى الشمس ..
وشق عبد الغفار لضيفه وللجالسين بطيختين كبيرتين ..
وأخذوا يأكلون قطع البطيخ بشهية ..
وقال حماد وهو ينظر للجواد وكان يحب الخيل :
ـ هل اشتريت هذا الجواد حديثا ..؟
ـ لا .. إنه من نتاج فرس فى بيتى ..
ـ كم هو جميل .. أعربى ..؟
ـ أجل .. وعربى أصيل .. وأمه اطلق عليها جواد الشيخ عمران .. وهو أشهر جواد عندنا .. جواد رفض صاحبه أن يبيعه للسباق .. رغم مغالاتهم له فى الثمن ليغروه على البيع ..
ـ ولماذا رفض .. وفى امكانه أن يشترى غيره ..؟
ـ لاشك أنك تعرف أن الجواد الأصيل نادر الوجود فى هذه الأيام .. فالجياد تنقرض .. كما ترى .. نحن فى عصر الآلة ولم يعد هناك سامر .. ولا دف ترقص على وقعه الخيل .. كما كان الحال فى الريف منذ خمسين أو مائة سنة .. لايوجد الآن الفراغ الذى كان فى الماضى .. والحياة تدور بسرعة ونحن نجرى فيها بأسرع مما كان .. والجواد لطول العشرة يصبح قطعة من جسم صاحبه ..
ـ وجوادك هذا ألا ترغب فى بيعه ..؟
ـ ما فكرت فى هذا قط ..
ـ حتى ولو أعطيت فيه ثمن سيارة ..؟
ـ وما نفعى من السيارة .. إن هذا الجواد صديقى ورفيق الطريق .. فهل أبيع رفيقى بسيارة ..
أننى عندما أمسح بيدى على كاهله .. وأراه يهتز فرحا أحس بأننى أضع كفى على الدنيا بأسرها ..
ـ أترقص به فى الموالد ..؟
ـ أفعل به كل شىء .. كل ما يخطر لك على البال .. وأركبه بسرج ومن غير سرج .. وبلجام ومن غير لجام .. وأمضى به فى الليل المظلم وفى وضح النهار .. وفى النار الموقدة .. وفى النسيم العابر .. وأتخطى به الجداول .. وأعبر القنوات ..
وهو يعرف بمجرد أن أضع جسمى على ظهره ما أطلبه منه .. دون أن أحثه على الإسراع أو التبختر ..
فهل هذا الجواد يباع ..؟
ـ أبدا .. ولو بكل ما فى الدنيا من ذهب ..
وكان الجواد قد مد رأسه نحو الحشائش .. فنهض الفارس وأزاح عنه السرج .. واللجام .. وتناول من السرج البندقية .. وأمسك بها فى يده وجلس مكانه .. وقدم ابن عبد الغفار بعض العلف للجواد .. فأرخى رأسه وأخذ يأكل ..
واستغرق الجالسون فى الحديث .. حتى مالت الشمس للمغيب ثم تنبهوا على صهيل الجواد .. وتلفتوا فوجدوا ثعبانا ضخما يزحف عليهم ..
ووثب الفلاحون من مكانهم .. وتناول كل منهم فأسا وأحاطوا بالثعبان ..
وتقدم عبد الغفار إليه رافعا الفأس .. وحاول ضرب الثعبان فى رأسه .. ولكن الثعبان راوغه وخابت الضربة واضطرب الجميع ..
وزاد الأمر خطورة ..
ولما شعر الفارس بخطورة الموقف وحرجه .. تناول بندقيته سريعا وأطلق على رأس الثعبان فأصابه فى مقتل ..
وجر أحد الفلاحين الثعبان بحبل وألقاه بعيدا عن المكان ..
واستمروا فى سمرهم .. حتى مضى جزء من الليل .. ولأن محفوظا كان قد ذهب إلى السوق ولم يعد حتى بعد صلاة العشاء .. فقد استبقى عبد الغفار ضيفه إلى الصباح .. لينجز المسألة التى جاء من أجلها ..
ورضى الفارس أن يبقى وتعشوا وفرشوا له خارج الخص فى العراء لأن الحرارة كانت لاتزال شديدة ..
وناموا جميعا مثله فى العراء ..
وبقيت الكلاب وحدها ساهرة فى المزرعة ..
ولاحت النجوم متألقة فى السماء .. ولكن القمر لم يطلع بعد ..
وفى الصباح استيقظ عبد الغفار قبل ضيفه ودار حول الحقل كعادته ..
وعندما رجع إلى الفارس وجده لايزال نائما .. ووجد على قيد ذراع منه شيئا أفزعه وأجرى الرعشة فى بدنه .. وجد ثعبانا ضخما ميتا .. ولما أمعن فيه النظر عرف أن حوافر الجواد دكته بعنف وخمن أنه أنثى الثعبان الذى قتله الفارس فى ساعة الغروب ..
خرجت الحية الرهيبة لتنتقم .. وكان الجواد فى مكانه يصهل .. ولم يكن عبد الغفار يدرى ألدغته هذه الأنثى قبل أن تموت أم لا ..؟ ولكنه كان يعرف أن الجواد قد تغلب بقوته وذكائه على الشر .. وحتى السموم سيتغلب عليها ..
وكانت نظرة الجواد إلى صاحبه النائم .. تدل على أنه فعل شيئا كبيرا .. من أجله .. فى الظلام .. شيئا لم يحس به انسان ..




======================== 
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
=======================          






صقر البحار



     كان البحر عالى الموج والرياح تزمجر والليلة شديدة الظلام ..
         وكان الزورق يشق الماء فى جو ينذر بالعواصف والمجدافان يعملان بشدة .. ويجهد أنفسهم الرجال الشجعان ليصل الزورق إلى مقصده ..
     كان قد ابتعد عن المنتزة وخرج إلى عرض البحر .. وأصبح تحت رحمة الأقدار .. ولكن الرجال الأشداء الذين يوجهونه كانوا يكافحون ببسالة ..
     ولم تكن العاصفة مقدره .. ولا كانت فى حسبان أحد .. ولا كان هناك أدنى احتمال فى أن ينقلب الجو إلى هذا السوء ولكن الزورق كان لابد أن يبلغ السفينة فى منتصف الليل مهما كانت الأحوال فأقلع ..
     وكان ( مرسى ) صاحب الزورق الملقب ( بصقر البحر ) من أمهر الصيادين ورجال البحر فى الإسكندرية اعتاد على المخاطر وركوب الأهوال ، وكان يعتمد عليه فى مثل هذه المهمة اعتمادا كليا .. وندر من يقبلها أو يرضى القيام بها من أصحاب الزوارق الأخرى .. ولكن صقر البحار كان على استعداد تام لأن يبيع نفسه حتى للشيطان إذا دفع له الأجر عاليا ..
     وكان صقر البحر أصغر من رفيقيه فى الرحلة سنا ولكنه أشدهم بأسا وأعظمهم قوة وكان يتولى القيادة وأمساك الدفة .. وفيه كل طباع القرصان .. مع أن عهد القرصان قد ولى .. وذهبت أيامه وبقى ظله فى البحار .. ولكن مرسى كان يضحك ويقول : « أن الناس أصبحوا قراصنة على الأرض بعد أن اختفى قرصان البحار .. فلماذا لا أعيد للبحر هيبته .. ؟ »
     ومنذ عصف البحر وهو يفكر فى الشىء الذى غيبه فى القاع .. خشية أن يغرق الزورق ويفقده فتكون الكارثة الكبرى ..
     وكان جسورا مقداما بطبعه .. وقد أكسبه العيش فى البحر .. جرأة وجسارة أكثر .. وقد ذهب بزورقه هذا إلى سواحل الشام .. كما ذهب إلى قبرص وإلى بيريه .. ولم تكن جرأته فى البحار تقف عند حد ..
     وكان يرتدى سروالا أسمر وقد تمنطق بحزام ووضع على صدره ( فانلة ) البحار وفوق هذه صدارا قطنيا مخططا زاهى الألوان .. وغطى رأسه بطاقية صوفية مزركشة جعلته أشبه بصقر الليل ..
     وكان الملاحان الآخران المرافقان له فى الرحلة يلبسان ملابس الصيادين .. وحشا أحدهما جيوبه بالتبغ والبلح المجفف .. وأخذ الرجال الثلاثة يدخنون فى صمت وعيونهم إلى البحر والليل وكانت العاصفة تزداد عنفا ..
     وكان هناك المسافر الوحيد فى هذا الزورق .. وقد جلس قابعا منزويا فى الجزء الخلفى الملاصق للدفة وعلى وجهه كل دلائل القلق والخوف الشديدين ..
     وأخذ الزورق يتأرجح ويعلو به الموج ثم يهبط .. ومع كل ذلك ظلت ملامح الرجال ساكنة ووجوههم جامدة .. وكانوا قد طووا نصف الشراع .. وبدا النصف الأعلى المنشور كافيا لأن يدفع الزورق كالسهم فى مثل هذه الريح لو كانت الأحوال طبيعية ولكن صراع الموج كان يعوق الإبحار .. وكان الزورق يبدو .. كأنه لا يتحرك من مكانه .. والبحر يزأر بعنف وكأن فى أعماقه غيلانا تتقاتل .. وتجذب الزورق بسلاسل إليها ..
    عاش الثلاثة رفقاء فى البحر .. وكانت حياتهم ملتصقة بالبحر وممتزجة به .. وتحت سمائه يأكلون ويشربون .. وينامون .. وكانت صدورهم المفتوحة وعضلاتهم وسواعدهم .. تزداد قوة وصلابة فى صراعهم مع الأمواج ..
     وكان " مرسى " على غير عادة قد أخذ يجدف فى هذه الليلة لهول البحر .. وكانت قوته وحده تعدل قوة رفيقيه .. ثم ترك المجداف لغيره وانتصب فى مؤخرة الزورق .. يرقب ما هناك .. وبدت قامته الطويلة فى الليل كمارد أسود ..
     كان فارع الطول عريض الألواح .. وكان يجيل عينيه الحادتين فى أغوار البحر .. باحثا عن السفن التى تتحرك هناك ..
     وكانت يداه تتحركان إلى الأمام والخلف ثم وضع أحداهما فى جيبه وأشعل لنفسه سيجارة بعد أن أنحنى فى القاع ليكون بنجوة من الريح ..
     وبدت عيناه حمراوين كوهج السيجارة التى فى أطراف أنامله .. وكانت حياته صراعا رهيبا كثيرة المخاطر .. وكانت المخاطرة تدفعه لمثلها أو أشد منها حتى وجد نفسه أخيرا يعيش فى حلقة مفرغة وكان الصيد ستارا لما يقوم به من أعمال خفية ولم يكن يؤمن إلا بالشىء الذى سيحصل عليه هو مهما ركب فى سبيله من أخطار ..
     كان أنانيا يدور حول نفسه والأنانية هى محور حياته .
     وكان عيشه فى البحر قد جعل جلده أسمر كأنما سفعته النكبا .. وكان شعره مفلفلا قصيرا .. وترك شاربه مفتولا وكان يعنى به ويدهنه ويجعله لامعا كلما أتيحت له الفرصة لأن يزهو بنفسه ..
     وفجأة برز أمام عينيه شىء ضخم قام كالجدار كأنما خرج من جوف البحر ولم يشاهد ( مرسى ) السفينة إلا وهى أمامه .. وكانت ضخمة من عدة طوابق وتسير فى الخط المضاد .. وكانت تقترب منه كأنها متعمدة سحقه ولما أقتربت توضحت معالمها وأبراجها وبدت أنوارها الضئيلة تمسح الظلمة قليلا .. لاحت فى الليل الشديد السواد وهى تتأرجح .. كحبات من الدر متناثرة على صينية من الزئبق الرجراج ..
     وكان الموج يدفع السفينة الشامخة ويميل بها إلى جانب ولكنها كانت فى جبروت واصرار تلتزم خطها المرسوم .. وكان ( مرسى ) يدرك تماما أن السفينة لم تره ولم تحس وجوده إلى جانبها .. قط .. وهنا يكمن الخطر ويتجسم فى كل لحظة ..
     وأحس بالدوامة تقترب وكان الزبد الأبيض المتخلف من محرك السفينة والذى سيطويهم يقترب منه .. رآه ( مرسى ) على مدى أمتار قليلة .. فامسك بالدفة فى يده وصاح فى رفيقيه وزأر ..
     وأحس المسافر الوحيد بالخطر فتجمع على نفسه مرعوبا ..
     وزعق الرجال الثلاثة فى صوت واحد وقد تحولوا إلى مردة .. على المجاديف ..
     واندفع الزورق إلى الأمام ثم ارتد إلى الخلف مرة أخرى وارتفع كالطود ثم أنخفض وحسب الرجال أنهم قد غاصوا فى قاع البحر .. ثم تنبهوا إلى صوت المحرك .. مع صفارة السفينة ..
     وكأنما جاء النذير فى الليل العاصف فهدأت المحركات .. ومرق الزورق من جانب السفينة وخرج إلى بحر الأمان ..
     وران صمت كالجبال على الوجوه المنتفخة .. والعيون المحدقة فى ذهول .. فقد نجوا من الموت باعجوبة .. أعجوبة الأعاجيب ..
     وتغير وجه مرسى بعد أن أجتاز الخطر .. وظهر عليه العبوس فقد أحس بأنها ليلة مشئومة .. ولكن لهفته على أن ينجز مهمته .. جعلت قلبه الصلد لا يلين ولا يعبأ بما تأتى به الأخطار فراح يحدق إلى الأمام فى سكون .. وكأن البحر يضفى عليه إحساسا بالقوة وبالحرية ..
     تحرك المجدافان فى الماء وأخذا يضربان صفحته فى قوة .. وأحس ( شعبان ) أحد الملاحين بطقطقة فى الحلقة التى تمسك بالمجداف .. وفى سرعة جذب المجداف من الماء وأخذ يغير الحبل .. وبقى المجداف الآخر يثير الزبد ..
     واستدار الزورق لما نزل المجداف الثانى إلى الماء مرة أخرى وأخذ يشق طريقه وبدت أضواء السفن من بعيد تتحرك فى بطء .. كأن المحركات تتقى شر العاصفة ولا تدور إلا هونا ..
     ونظر ( مرسى ) إلى ساعته فألفاها الحادية عشرة .. وكان أمامه مسيرة ساعة كاملة فى هذه الأهوال حتى يلتقى بالسفينة التى يقصدها..
     وكان الزورق رغم العواصف والأنواء يسير فى خط معلوم كأنما يتحرك بمحرك .. كان ينطلق ثم يرتد ولكنه يمضى على سننه فى وجهته المرسومة ..
     وكان الماء واسعا وخيل إلى ( مرسى ) عندما أبعد تماما عن الشاطئ وأوغل فى اليم إنه يسير فى وسط المحيط الأطلسى ويتجه غربا إلى أبعد مدى ..
     واعتمد على عامود الدفة وأخرج لنفسه سيجارة من جيبه وأشعلها وأجال الطرف فيما حوله .. كان البحر لا يزال مهولا .. ولكن السفن بدت كثيرة وراء بعضها كأنما تربطها سلسلة واحدة وهى خارجة لتوها من قناة السويس .. لابد أنها عبرت القناة بالأمس .. وربما فجر اليوم وها هى الآن تتهادى إلى كل البحار ..
     ظل الرجل فى مكانه صامتا حتى رأى النور الذى يعرفه والسارية التى يقصدها .. وكان يعتمد على ( شعبان ) اعتمادا كليا فقال فى صوت النشوان :
     ـ إننا نقترب ..
     ـ أجل .. ياريس ..
     ـ عندما ندور فى الجانب الأيسر من السفينة أترك المجداف لـ ( حميدو ) .. وارتكز أنت على المقدمة حتى ترى الزورق ينزل بالحبال من السفينة .. وحاذر من السفينة وإلا أغرقتنا فى دوامتها ..
     ـ سنبذل كل ما فى وسعنا .. واللّه يسلم ..
     ومرت لحظات وظهر من بعيد هيكل السفينة كالجدار ونزل من جانبها زورق صغير وبدا الرجال فى الظلمة كالعفاريت ..
     ورفع مرسى المجاديف عن زورقه وانحنى إلى الأمام يحدق فى الظلمة الجاثمة أمامه .. وقد أمسك بيده عمود الدفة .. ورأى الزورق الآخر على سطح الماء ثم أنزلق إلى ناحيته وران الصمت .. حتى أقترب الرجال ..
     وخرج المسافر الوحيد من مكمنه كأنه خارج من قاع الجب ..
     وأخرج ( مرسى ) الصندوق الملآن بالسبائك الذهبية .. من قاع الزورق وناوله لشعبان فى المقدمة .. وتقابل الزورقان ..
     ونزل المسافر الوحيد فى الزورق الآخر .. وحمل له مرسى الصندوق المملوء بالذهب والجواهر .. ووضعه بجانبه فى الزورق الآخر وقبض أجر التهريب من المسافر الوحيد .. وعاد إلى زورقه وهو نشوان فقد قبض مبلغا ضخما .. يكفيه لأن يعيش كريما لو أراد ..
     ودارت المياه وتحرك الزورق الآخر حركة لولبية ثم عاد إلى سفينته مرة أخرى ورفعوه بالحبال والجنازير ..
     وتنفس الرجال الصعداء لقد قاموا بالمهمة فى جو عاصف وفوق الأمواج المرتفعة .. وسأل مرسى .. رفيقيه :
     ـ تعبتم .. ؟
     ـ أبدا ..
     ـ حركا .. المجاديف .. جولة واحدة ثم نرجع لننام ..
    وتسمع حركة .. فأنصت وألقى أذنيه :
    ـ إنى أسمع حركة ..
    وأنصت الملاحان ..
    ـ إنه طراد ..
     ـ لا .. إنه رفاص السواحل .. حل الشاغول يا شعبان .. وشد الشراع إلى آخره ..
    ـ نغرق يا ريس ..
    ـ الغرق .. خير من القبض علينا .. سيسوموننا العذاب .. حل ياشعبان حل ..
    ـ نغرق ياريس ..
    ـ قلت لك حل ..
    وتحرك إليه فدفعه إلى السارية ..
    واندفع شعبان إلى الأمام .. وعاكسته عقدة فى الحبل .. فتعلق بالسارية .. ليعالجها .. وجاءت موجه عالية فى هذه اللحظة .. رفعت الزورق على صدرها ثم حطته .. وعندما نظر مرسى إلى مكان شعبان وجده شاغرا .. فصرخ فى حميدو .. ولكن الزورق كان يسير بين موج كالجبال فذهب الصراخ هباء ..
    وكان حميدو يريد أن ينزل وراء شعبان .. ولكن مرسى منعه ..
    وكان البحر مهولا .. والحيتان تتراقص بجانب الزورق .. وطفا شعبان مرة واحدة وهو يصرخ مستنجدا .. ثم ابتلعه اليم ..
     وشرب مرسى الشاى .. وأشعل سيجارة ..
     وخيم سكون الموت فهذه هى المرة الخامسة التى يحدث فيها غرق فى جولاته .. كان شعبان الذى غرق من أمهر الملاحين وقد أسف عليه ولكن ماذا يجدى الأسف ..
     ولم يحزن مرسى على الرجل الذى غرق وابتهج لأنه سيأخذ نصيبه وقرر أن يعطى أرملة الغريق منحة بسيطة ويأخذ الباقى لنفسه ..
     أما حميدو فقد حزن على موت رفيقه وأحس بغصة فى حلقه .. ولولا خوفه من مرسى لقفز إلى الماء وتركه وحيدا ..
     ولما وجد الريح قد سكنت أطلق الشراع كله .. ورفع المجداف .. وخيم الصمت من حوله .. وبدأ الليل تنقشع غياهبه .. وأخذت نجوم الفجر تتألق ..
     وكان الزورق ينطلق فوق الماء فى يسر بعد أن سكنت الأمواج ..
     وأحس مرسى وهو معتمد على الدفة وقد أطلق « الشاغول » وشد الشراع بأنه يملك زمام الطبيعة .. وأن كل شىء رجع إليه كما كان .. وبدا البحر جميلا أزرق .. وصفحة السماء فى مثل زرقته ..
     لم يحزن على الرجل الذى طواه البحر .. أبدا .. هذا عارض يحدث لكل إنسان وماذا يجدى الحزن .. وماذا يجدى الأسف ..
     وأحس بالجوع .. فأكل شيئا .. ولم يأكل رفيقه .. وأحس بعد الطعام بالدفء ولم تكن الليلة شديدة البرودة .. وإن كانت ريح فبراير لا تزال تسفع ..
     وكان الزورق يشق صدر الماء فى يسر والشراع منتشرا .. والحبال مشدودة .. وإلى يساره لاحت أنوار بعيدة ..
     إنه يقترب من الشاطئ جدا .. وقد بعد عن الخطر .
     وارتكز ثانية فى مؤخرة الزورق وحول إتجاهه .. ليقترب من الشاطئ أكثر وأكثر ..
     لقد دخل فى منطقة الأمان ولم يعد البحر يخيفه ..
     وتحسس النقود فى نطاقه الجلدى .. سيعطى « حميدو » خمسين جنيها فقط ويبقى المبلغ كله له لقد أدى المهمة واستراحت نفسه .. شعر بالارتياح .. كان يشعر بإبتهاج النفس كلما فرغ من عمل ركب فى سبيله المخاطر ..
     وملأ رئتيه من هواء البحر .. وتمطى وشعر بلذة من فرغ من عمل كبير .. واستحوذ على أجره كاملا ..
     وانطلق الزورق ..
     وبدت اليابسة على مرمى الأفق .. الأرض الخضراء .. وكان يحس بانتعاش وهو يرى إلى بعيد .. ويحس بشوق لأن يعود .. إلى بيته سليما كما خرج منه ..
     لقد انتهى الأمر .. وذهبت المخاوف كلها .. وبغرق شعبان إنزاح الشؤم كله ..
     وأحس بأنفاس البحر .. وكان الزبد يذهب مع الموج ثم يجئ .. زبدا راغيا ..
     وأخذ الزورق يتمايل حتى لاحت اليابسة .. مع أنفاس الصبح .. وأشرق نور الصباح .. بهيجا رائعا .. وسيسير فى النهار عائدا إلى الإسكندرية .. انه الآن على مبعدة من رشيد وربما من أدكو .. وسيظل يتهادى بزورقه فى عرض البحر حتى يقبل الظلام .. وفى الليل سيدخل الإسكندرية .. ما أجمل الحياة فى البحر ..
     أن حياة البحر هى الحرية ..
     وقال لحميدو :
     ـ إرم الشبكة .
     ومع مطلع الشمس سحباها وكان فيها سمك كثير ..
     كان مرسى مستغرقا فى التفكير .. وكان رفيقه يلقى بالسمك الحى إلى قاع الزورق ويطوى الشبكة فى المؤخرة .. ويقوم بعمله العادى فى نشاط عجيب .. ونسى ما حدث فى الليل .. نسيه بسرعة .. لأن الحياة عودته على ذلك .. وأدار الزورق .. وقادة إلى حيث يقدر وجود المياه الساكنة كان يريد أن يصطاد سمكا كثيرا يملأ به قاع الزورق ليغطى العمل الذى خرج من أجله فى الليل فظل يصطاد ويصطاد .. وبدا كل شىء واضحا فى الشمس بهيجا وظل الجو هادئا إلى العصر وفى الغروب انقلب الجو مرة أخرى .. وأمسى عاصفا وظل الرجلان يكافحان ويغالبان الأمواج ببسالة وملامحهم ساكنة ..
     وأحس مرسى بموجة عاتية قادمة من بعيد ستدفع الزورق وتحطم السارية .. وانقلب الزورق من شدة العاصفة واحتواه الماء .. وغاص مرسى فى اليم ثم طفى ولما نظر لم يجد الزورق المقلوب ولا حميدو واختفى كل شىء عن نظره وظل يسبح ثم أدركه التعب وقبل أن يشرف على الغرق انتشله زورق من زوارق الصيادين وألقاه إلى الشاطئ .. وكان فى حالة من الغيبوبة ولما أفاق لنفسه كان متمددا فى كوخ بجوار البحر .. والشمس مصفرة وكانت هناك امرأة واقفة خارج الكوخ ..
     كانت نعيمة على الباب .. واقفة كأنها تنتظر عودة زوجها الذى ذهب إلى الحقل .. أو تتطلع إلى الغروب .. وكان وجهها يرف كالأقحوان وقد بدت طويلة ملساء العود نقية البشرة ..
     وسألها الرجل الراقد وهو يدير عينيه فى ذهول لعله يتذكر :
     ـ ما الذى جاء بى إلى هنا .. ؟
     ـ التقطك صياد .. وأنت غريق فى البحر ـ بين الموت والحياة ـ وألقى بك إلى الساحل ..
     ـ وأين نقودى .. ؟
     ـ أى نقود .. ؟
     ـ نقودى الكثيرة حزمة من أوراق البنكنوت ثلاثة آلاف جنيه كانت هنا فى نطاقى ..
     ـ ربما سقطت فى البحر ..
     ـ إنها لا تسقط .. لقد سرقت منى .. وانتزع النطاق وأنا فى غيبوبة ..
     ـ ربما فعل هذا الصياد ..
     ـ من يدرى وربما غيره .. ؟
     وحدق فى وجهها .. كانت رائعة فى دثارها الأسمر .. وكانت عيناها السوداوان تشعان ببريق أخاذ ..
     وغاظه أن المال الذى ظل يعد العدة له منذ سنة كاملة .. ذهب سريعا فى خطفة عين .. دون أن يدرى من الذى أخذه ..
     وأحس بالغضب .. ولكن الحمى كانت تشله عن الحركة .. ونظر إلى المرأة مرة أخرى وأتهمها وإن لم يجد الدليل القاطع ..
     وسألها :
     ـ هل تعرفين الصياد الذى انتشلنى من البحر .. ؟
     ـ أبدا .. إنه عابر سبيل .. ربما كان فى طريقه إلى الإسكندرية .. أو رشيد .. لقد ابتاع منا سجائر .. وأبقاك هنا .. وذهب ..
     وفكر أنها تكذب ..
     وسألها :
     ـ تحت أى بلدة نحن ..؟
     ـ إننا قريبا من « ادكو » ..
     ورأى رجلا يقدم فى إتجاه الكوخ .. فسألها :
     ـ ومن القادم هناك ..؟
     ـ إنه زوجى ..
     ورأى رجلا قصيرا يتحرك فى ظل الغسق .. وكان يحمل زكيبة على عاتقه .. ولما اقترب الفلاح من مرسى جلس بجواره يحييه ويسأله :
     ـ كيف حالك الآن .. ؟
     ـ كما ترى .. بخير .. والشكر لك ولزوجتك ..
     ـ اعملى شايا يا نعيمة .. وجهزى العشاء للريس .. ما اسم الكريم .. ؟
     ـ مرسى ..
     ـ جهزى العشا للريس مرسى ..
     ـ العشا جاهز .
     ـ أشكرك .. تعاف نفسى الطعام .. أرجوك إذا مرت سيارة أجرة فى طريقها إلى الإسكندرية أوقفها لى .. لأعود لبيتى ..
     ـ أنت الآن تعبان وإذا سافرت .. وأنت مريض ستؤذى نفسك ..
     ـ لا بد أن أذهب إلى المستشفى إن الحمى تأكل بدنى ..
     ـ نعم .. سنوقف لك سيارة ..
     وشرب مرسى الشاى .. وأحس بالعرق والنوم يراود أجفانه فتدثر ونام إلى الصباح ..
     وفى الصباح وجد الفلاح قد خرج إلى حقله .. وكانت نعيمة هناك بعيدة فى الكشك الذى على ناصية الطريق تبيع الدخان والكازوزة للعابرين ..
     وألفى نفسه فى الكوخ وحده .. ووجد الفرصة سانحة ليفتش كل جحر وشبر باحثا عن نقوده .. فتحرك وأخذ يفتش فى كل ركن وفى كل الأشياء فى « الغلق » وفى الصندوق وفى الجراب .. وفى الطاقة .. بحث فى هذه الأشياء .. بسرعة ولهفة خشية أن يرجع الرجل أو ترجع المرأة فجأة .. ولم يجد شيئا فى الغلق ولا فى الصندوق ولا فى الطاقة .. فعاد إلى مكانه يائسا وفيما هو يدور بعينه فى الحائط .. لمح شيئا ارتجف له قلبه .. لمح شرخا حديثا فى الحائط سوى بمونة لم تجف بعد .. فانتصب وتحسس بيده قالب الطوب .. وانتزعه .. وهنا وجد الفجوة .. وقبضت يده على البنكنوت .. نقوده بعينها .. نقوده فى الربطة الجلدية التى كان واضعها فى نطاقه ..
     وقبضها بيديه ووضع النقود فى صدره واحتضنها .. وهو نشوان لإنتصاره .. واستقبل الباب ليفر بها ..
     وهنا أحس بطعنة خنجر حادة تنفذ فى ظهره تبعتها طعنات سريعة وسقط مرسى صريعا على الأرض فى مدخل الكوخ ..
     وفى ظلام الليل .. سحب الفلاح القتيل على الرمال الناعمة حتى ألقاه فى البحر ..


===============================
 نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
===================================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق