الجمعة، 17 أبريل 2015




الأصابع العارية



وقف شاب فى ساعة الأصيل أمام أحد البيوت القديمة فى عزبة النخل يلمس الجرس فلما لم يجد استجابة فى الداخل قرع الباب بتؤدة ثم بعنف .. وسمع نباح كلب فى الداخل ثم أقداما تقترب فى ممشى الحديقة وصوتا خشنا يزجر الكلب ..
وانفرج الباب الكبير وهو يصر وظهر رجل طويل براق العينين على العتبة وكان يرتدى صدارا من الصوف الداكن وبنطلونا رماديا .. ويمسك بيده سلسلة صغيرة تدلى منها مفتاح ..
ونظر الرجل بعينين نفاذتين إلى  الشاب .. الذى سأله بصوت هادىء :
ـ أهذا بيت السيد مدكور ..؟
ـ نعم ..
ـ وهل هو موجود ..؟
ـ أنا مدكور ..
ـ أننى مختار المهندس الذى حادثته حضرتك فى التليفون أمس ..
ـ أهلا وسهلا .. تفضل يا بنى .. تفضل ..
واجتاز مختار العتبة وهو ينظر بخوف إلى الكلب الضخم الذى وقف فى حالة توثب بجوار سيده ..
ولاحظ السيد مدكور ذلك .. فقال :
ـ لاتنظر إليه بخوف هكذا .. ففى الكلاب حاسة ادراك خارقة ولا أحب أن يكون بينك وبينه عداوة ..
وابتسم مختار ومشى فى حديقة موحشة كثيفة الأشجار فيها أنواع مختلفة من أشجار البرتقال والليمون والورد كما زرعت نخلتان طويلتان وبنيت فسقية صغيرة فى وسط الحديقة يمرح فيها البط ..
وبدت الحديقة تحت نظره هائجة لم تتناولها يد منذ مدة بالتشذيب وأرضها معشوشبة فى جانب ومتربة فى الجانب آخر ..
ولاح البيت وراء الحديقة من طابق واحد وقد خيم عليه السكون المطبق ولم تظهر بادرة أنفاس تتردد فى داخله ..
ودفع السيد مدكور الباب ووراءه مختار إلى ردهة بدت معتمة حتى عن النهار الباهر ..
وفى حجرة واسعة جلس مختار ينظر حواليه إلى أشياء كثيرة وضعت فى غير نظام ولا ترتيب .. فقد رأى تماثيل دقيقة ولوحات فنية رائعة وعددا مختلفة وآلات حدادة ونجارة وساعات حوائط ومنبهات وكتبا ..
وتركه السيد مدكور جالسا وحده فى الغرفة ودخل فى جوف البيت .. وتأتى له من هناك صوت ناعم .. وكان من شدة خفوته لا يبين ..
ورجع مدكور إلى غرفة الجلوس .. وأغلق وراءه بابها .. وأخذ يرحب بمختار ويحادثه بمودة .. وسمع نقرة خفيفة على الباب المغلق فنهض وحرك مصراع الباب حركة خفيفة وبصر مختار بكف بيضاء وأصابع عارية تمتد بصينية القهوة ..
وشربا القهوة وأفاضا فى مختلف الأحاديث ولاحظ مختار أن صاحب البيت وإن جاوز الستين من عمره ولكنه مازال موفور الصحة ولايزال يجرى فى عروقه الدم وقد خلا وجهه من التجاعيد ..
كما لاحظ أنه لايدخن وأنه يشرب القهوة  بتؤدة وهو يستلذ مذاقها .. وأنه على ثقافة واسعة .. وعلم بالميكانيكا والكهرباء ..
وقال السيد مدكور وهو يشير لأول مرة إلى المهمة التى جاء مختار من أجلها :
ـ والآن تفضل لأريك الماكينة ..
ونهض مختار ومشى به مدكور فى ردهة طويلة معتمة إلى الناصية الخلفية من المنزل وفى قاعة صغيرة رأى آلة صغيرة على قاعدة من الخرسانة ..
وقال مختار فى سرور :
ـ إنها تبدو رائعة ..
ـ وقد تعجب إذا علمت أننى ركبتها كلها بيدى ..
ـ هذا عظيم ..
ـ ومعظم العدد ابتعتها من السوق .. وبعضها صنعته بنفسى ..
ـ وكم كلفتك ..؟
ـ حوالى مائة وخمسين جنيها ..
ـ مثلها تساوى الآن أكثر من خمسمائة ..
ـ لم يكن هذا قصدى .. وإنما كنت أود أن أصنع شيئا فى حياتى .. شيئا ذا قيمة وقد صنعته ..
وبدا على مدكور الزهو والافتخار ومد قامته .. لما سمع صوت الكلب فى الحديقة ..
وكان مختار قد انحنى على الآلة يتفحصها بدقة ثم رفع رأسه وقال :
ـ نديرها ..
وأدارها مدكور " وتكت " وخرج " العادم " والكلب ينبح والرجل قد أغرورقت عيناه من الفرحة ..
وقال لمختار فى صوت الحالم :
ـ ما أجمل أن تصنع شيئا ينبض تحت سمعك وبصرك .. شيئا يتحرك فى حركة رتيبة كخفقة القلب ..
وقال مختار ليزيد من حماسة الرجل :
ـ إنه عمل رائع .. إنه خلق ..
وقال مدكور وعيناه تلمعان :
ـ لقد أحببت الوابورات منذ الصغر .. وكنت أصنع الوابور الصغير من الطين .. وعيدان البوص وأجعله يدور متى احتبس البخار .. وأخرج بتلك الفرحة التى تراها على وجهى الساعة ..
وسأله والماكينة لا تزال دائرة :
ـ والآن ما العيب يا باشمهندس ..؟
ـ فى تصورى أنه فى الكرنك ..
ـ وليس فى الحدافة .. ولا البستم ..
ـ لا .. إنه فى الكرنك .. إنه خفيف الضغط .. ولذلك قلت السرعة ..
ـ وما الرأى ..؟
ـ نستبدله .. أو نصب غيره ..
ـ ومتى أرسله لك ..؟
ـ سأفكه الآن وآخذه معى فى سيارتى ..
وجلس الرجلان يفكان الصواميل ..
وقال مختار :
ـ سألقى نظرة أخرى على العدد كلها مادمنا شرعنا نفك الوابور .. فأرجو أن تأتى لى بمصباح ..
وغاب مدكور قليلا ثم رجع .. وبعد دقيقة واحدة .. سمع نقرا خفيفا على الباب مثل الذى سمعه أول مرة .. وامتدت الأصابع العارية بالمصباح .. وهمس مدكور بشىء لم يسمعه مختار .. وكان قد رفع رأسه بدافع الفضول وأخذ ينظر إلى هذه اليد السحرية التى تمتد فى الظلام ..
ولاحظ مدكور .. بعد أن شمر مختار عن ساعده .. جرحا قديما ترك آثاره فى الذراع اليمنى .. فسأل :
ـ أهذا من الآلة ..؟
ـ لآ .. إنه من الإنسان ..
ـ من الإنسان .. كيف ..؟
ـ كنت مع الشبان الذين ذهبوا إلى الإسماعيلية وأطلق الإنجليز عليهم الكلاب المسعورة ..
ـ نسيت هذا .. وسيظل الإنسان هو وحش الوحوش .. جميعا ..!! منذ فجر التاريخ .. منذ نيرون .. إلى القرن العشرين عهد الفرنسيين فى الجزائر .. وهو وحش الوحوش ..
ـ هذا صحيح ..
ـ ما من كائن يتفنن فى تعذيب جنسه .. وما من حيوان أو جارح من جوارح الطير .. بل ما من مخلوق على الاطلاق يميل إلى إيذاء جنسه .. سوى الإنسان .. الذى يتفنن فى تعذيب أخيه الإنسان ..
وكان العشى قد زحف وازداد السكون ثم قطع هذا السكون صوت الكلب وهو ينبح بشدة .. فنهض مدكور إلى الباب ففتحه وأطل منه .. ثم رجع وهو يقول وعلى وجهه الابتسام :
ـ الناس تتصور أننى أدفن كنزا فى الحديقة .. وبغير هذا الكلب ياربى كيف كنت أعيش وأنام ..
ورفع مختار رأسه وابتسم فى ود وهو ينظر فى عينى الرجل فقال هذا وكأنه قرأ ما يدور فى رأس مختار :
ـ ولهذا السبب أصبحت لا أشغل أحدا فى بيتى لا بستانيا ولا خادما .. وأعمل كل شىء بيدى ..
ـ إن فى العمل تسلية ولذة ..
ـ تصور أنهم كانوا يسرقون التحف والتماثيل التى لا تقدر بمال ويبيعونها بأبخس الأثمان .. وكنت أتعذب وأظل أبحث عنها حتى استردها .. وأخيرا أغلقت النوافذ والأبواب .. وعشت وحدى واسترحت ..
وسمع النقر على الباب .. وأطلت الأصابع العارية تحمل صينية الشاى .. وامتدت بها أكثر وأكثر حتى بدا المعصم كله فى ضوء المصباح .. وبدت يد أنثى رخصة دقيقة الأصابع فى جمال ساحر ..
ورفع مختار رأسه .. وطالعه الغموض من جو البيت .. وغص بريقه .. وهو يود أن يسأل :
ـ لمن تكون هذه الأصابع .. إذن مادمت تعيش وحدك ..
ولم يقو مختار على السؤال فصمت وتناول كوب الشاى وأخذ يترشفه فى بطء شديد وهو يتأمل .. ثم سأل ليقطع خيط السكون :
ـ هل الوابور لرى الحديقة بدل البئر ..؟
ـ للأمرين معا .. وسأعطى النور والماء للجيران مجانا .. أجل دون أجر على الاطلاق ..
ـ هذا عمل خير ..
ـ بعض الجيران .. فقراء .. وفى أشد الحاجة إلى النور والماء .. وما أثلج على الصدر .. أن ترى النور يدخل إلى هذه البيوت المظلمة ..
واستطرد مدكور وقد برقت السعادة على وجهه :
ـ لقد كانت أمنيتى منذ أحلت إلى المعاش وجئت إلى هذه المدينة الصغيرة .. أن أرى منازل الفقراء التى حولى تضاء بالكهرباء .. وأن أرى الأشجار تزرع والأراضى مخضرة والورود متفتحة هنا .. وأن أحول كل شىء إلى حياة ..
وصمت قليلا ثم أضاف فى حماسة :
ـ ورغم أننى أعيش وحدى ولكننى أقول لك عن تجربة ما أجمل الحياة لمن يعمل ويكد لغاية نبيلة ..
ـ هذا حق ..
وشغل بما فى يده برهة ثم نظر إلى الشاب بعطف وسأله :
ـ أمتزوج يا سيد مختار ..؟
ـ أبدا ..
ـ لماذا .. يا بنى .. أسرع بالزواج .. وإلا ستشعر بالضياع فى شيخوختك .. وتكون كمن تقطعت به الأسباب فى الصحراء .. لا ماء ولا شجر .. عجل وإلا ستقع فى نفس غلطتى ..
ـ وحضرتك لم تتزوج ..؟
ـ أبدا كما ترانى وحيدا .. ضائعا ..
ونظر مختار إلى وجه الرجل .. ثم عاد إلى ما فى يديه وهو يفكر .. هل هذا الرجل يمكر به .. أم أنه يستخدم فى بيته الشياطين .. من هى صاحبة اليد التى رآها إذن أكثر من مرة ..؟
من تكون .. من ..؟
واكتظت برأسه الأسئلة ..
ثم استغرق فى عمله حتى انقضى جزء من الليل ..
ولما فرغا من العمل .. نهض مختار مودعا والغموض والسكون يخيمان على البيت .. وحمل الكرنك فى سيارته وانطلق ..
وعاد مدكور فأغلق بابه بالمفتاح .. وكان الظلام يخيم والريح تصفر بين الشجر الملتف والكلب يتبعه وهو يبصبص بذنبه ..
ودخل مدكور البيت وأغلق الباب وراءه وطالعه ضوء المصباح الخافت والسكون العميق ..
ونظر إلى التماثيل الصغيرة والكبيرة فبدت له كالأشباح الخرساء .. كما بدت الصور كخيال الظل .. وشعر بمرارة قاتلة لأنه ذكر وحدته المرة للشاب الذى تركه منذ لحظات .. ونغص حياته .. وأحس بفراغه القاتل ..
وبدلا من أن يدخل الغرفة الأولى .. وكان النور فيها قد انطفأ .. دخل غرفته .. الغرفة التى لا يشعر فيها بنهار ولا ليل ..
واستلقى على السرير فى الظلام دون أن يشعل المصباح الصغير ..
وكلما اشتدت الريح فى الليالى الظلماء كان يحس بتحرك الشجر ثم بتحرك الأشباح ويتصور أن أحدا تسور السور .. وجاء لسرقته أو قتله فيحزن لأنه ليس عنده من صلبه ولد يحميه ويرد عنه غائلة الليل ..
كان يشعر بقشعريرة من مجرد التفكير فى أنه سيمسك المسدس ويطلق النار على اللص الذى يتسور السور فى الظلام ..
وراح فى دوامة من القلق والعذاب .. ثم أغلق عينيه فى الظلام واسترخى وأخذه النوم .. وأحس بأصابع عارية تضم عليه الغطاء ..
وبعد أيام قليلة رجع مختار فى ساعة الغروب يحمل له الكرنك الجديد .. وسر به مدكور جدا .. واتفقا على أن يركباه فى الصباح التالى .. بعد أن يقصر السير بمقدار عقدة .. لتكون سرعة الوابور طبيعية ..
وطار مدكور من الفرحة وهو يتصور أمنيته قد تحققت بعد طول جهاد وأنه صنع شيئا نافعا له ولجيرانه الفقراء ..
وفى اليوم التالى ركب مختار سيارته فى الصباح المبكر وأسرع بها إلى بيت الرجل وضغط على الجرس ثم قرع الباب فلم يتلق استجابة وتمهل برهة ثم عاود الطرق بعنف خيم بعدها السكون .. وانتابه هاجس جعل القشعريرة تسرى فى بدنه فتلفت حواليه فلم يجد أحدا يسأله ثم ضغط على الباب بكل قوته فاختلج تحت جسمه وانفرج وهرول مختار إلى الداخل ..
ووجد باب البيت مفتوحا .. فولج منه ووقف فى الصالة وقد شله الرعب .. فقد وجد الرجل صريعا وغارقا فى دمه إذ ضرب بآلة حادة .. والكلب بجواره ضرب مثل هذه الضربة .. ولكن ليس فى نفس المكان حيث ظل يزحف حتى رقد بجوار سيده ثم تلفت مختار فى حزن والدنيا تدور به .. فوجد بابا مفتوحا وأشياء مبعثرة على الأرض .. فأسرع إلى هناك ووجد سيدة رائعة الحسن مكممة من فمها وموثوقة اليدين والرجلين ومربوطة فى السرير .. وقد طعنت بسكين فى كتفها ولكنها لازالت تتنفس وتتوجع ..
وفك عنها الوثاق سريعا .. ورفع يدها .. وتذكر الأصابع العارية التى رآها أكثر من مرة وفتن بها .. ووضع رأس السيدة على صدره ومسح عنها الدم وتأمل وجهها الجميل .. وهو يفكر فى صلتها بالرجل الذى مات .. وكانت الأشياء المبعثرة حوله تؤكد له أن الجريمة كانت للسرقة .. ولا علاقة لهذه السيدة المسكينة بها ..
وكان مدكور قد آوى هذه السيدة الجميلة فى بيته بعد أن استشهد والدها ليصونها من الدنس ويحفظها من ذل الفقر ..
ولا تدرى بعد هذه الفاجعة كيف تواجه الحياة ..
ولكن مختار تناول أصابعها العارية ومسح عليها برفق وحنان ..


=================== 
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
=======================        


البائع الجوال


      خرجت من مستشفى الدكتور حسنى فى حى عابدين ذات ليلة من ليالى الشتاء .. وركبت الترام رقم 17 الذاهب إلى السيدة زينب لأصلى ركعتين لله فى المسجد الكبير تعبدا وشكرا له فى عليائه .. على نجاة والدى من العملية الجراحية الخطيرة التى أجريت له فى العصر واستمرت أربع ساعات كاملة ..
      وكان الأمل فى النجاة ضعيفا .. إلى حد أن الطبيب نفسه كان مترددا .. ثم توكل على الله وصلى ركعتين قبل أن يرتدى المعطف الأبيض .. ويدخل من باب حجرة العمليات .
     وقد ركبت الترام .. وقلبى يتجه إلى الله .. لأصـلى ركعتين مثـله فى المسجد الكبير .
     وكانت الليلة شديدة البرودة فاحتبس الناس فى البيوت من الغروب .. وكان ركاب الترام متفرقين فى المقاعد الخشبية .. وقليلين جدا إلى حد أننى كنت الراكب الوحيد فى المقصورة المخصصة للدرجة الأولى .
     ووقف مع الكمسارى فى خارج المقصورة مما يلى السلم مباشرة .. رجل كبير الجسم عظيم الكرش أخذ يثرثر معه حتى استغرق الكمسارى فى الحديث مع الرجل .. ونسى الركاب وقطع التذاكر .
     ولما نزل الرجل الضخم من الترام فى الدوران .. تحرك الكمسارى إلى نهاية العربة ثم ارتد .. وهو يقرع على حاملة التذاكر الخشيبة لينبه الركاب بقلم من الرصاص فى يده .. وكان بادى المرح رغم البرد الشديد ومشقة العمل و" زوغان " بعض الركاب دون دفع الأجر .
     وفى شارع الشيخ ريحان ركب من السلم الخلفى القريب منى رجل عجوز ووقف فى المكان المخصص للوقوف .. فأسرع إليه الكمسارى وهو يقرع بالقلم على ظهر حاملة التذاكر .
     ـ تذاكر .. يا عمى الشيخ ..
     ـ والله .. يا ابنى مـــا اسـتفتحت .. وسأركب محطة واحدة ..
     ـ محطة واحدة .. يا شيخ ابراهيم ..؟
     ـ أجل .. وما ركبت يا ابنى إلا بعد أن مزقنى التعب ..
     ـ اخرج من الزلع المدفونة تحت البلاط .. يا شيخ ابراهيم .. اخرج !
     ـ الزلع ..؟
     ـ نعم الزلع .. وانك لتمتلك .. أربع عمارات فى الحى ..
     ـ أنا ؟
     ـ أى .. والله ..انت ..
     ـ سمع الله منك .. وأعطانى .. من الذى يكره الغنى ..
     ـ وضحك الشيخ إبراهيم حتى بدت نواجذه ..
     وكان ناحلا رقيق الحال .. وقد بدت عظـامه وذهب لحمه .. وأحنت السنون ظهره .. ويلبس جبة سمراء من الصوف المغزول .. وقفطانا أخضر من الحرير المخطط بخطوط خفيفة ..
     وكان الثوبان اللذان على جسمه مهلهلين وأكمامهما واسـعة وممزقة ..وظاهر جدا من اتساع الطقم أنه لم يصنع له .. ولم يفصل على قد جسمه ..
     وكان يرتعش من الشيخوخة .. وقد بدا من عينـيه الكليلتين أنه يرى بصعوبة ..
     وكان ممسكا ببعض المصاحف الصغيرة وكتب الاوراد .. والأدعية الدينية .. وواضعا هذا كله فى محفظة بالية عليها آثار العرق القديم ..
     وتأثرت لرقة حال الشيخ العجوز وأشفقت على شيخوخته .. وكنت أود أن أدعوه للجلوس .. بجانبى لولا أننى وجدته يهم بالنـزول ..
     فأخرجت ورقة بخمسة وعشرين قرشا بسرعة من جيبى وكورتها .. ثم وضعتها فى يده .. فردها بقوة بكل جسمه .. وعيناه مخضلتان بالدمع ..
     فأعدت الورقة المالية ووضعتها فى يده .. وفى هذه اللحظة تحرك الترام بى وبعدت عنه .. وأبقى العجوز الورقة فى يده وهو ينظر إلى ما حوله فى حيرة .. وظل واقفا فى مكانه على المحطة بضع ثوان ثم تحرك فى تثاقل ..
     وبعد أن سار الترام فى طريقه بضعة أمتـار توقف لعطلة فى الطريق .. فخطر ببالى سريعا أن أتبع الرجل العجوز .. وأعرف إلى أين يمضى فى الليل .. هل سينام فى جدار إحدى عماراته .. أم فى جدار مسجد ..
     وأسرعت راجعا حتى بصرت به من بعيد .. ماشيا فى تثـاقل كعادته ..
     ومشيت وراءه وهو لايشعر بى فى شارع الخليج حتى وجدته ينحرف إلى اليمين فى حـارة قواوير إلى زقاق ضيق مسـدود .. لاتزال بيوته القديمـة بمشربياتها وشرفاتها الخشبية بادية للعيان ..
     وقرع بابا قديما ووقفت على مبعدة منه أراقبه .. والظلام لايجعلنى أتبينه بوضــوح .. فلم يرد عليه أحد .. فعاود الطرق ..
     وبعد لحظات برزت من الداخل امرأة عجوز تلبس السواد .. خرج معها متعلقا بثوبها طفلان .. ينظران إلى الطارق .. وقد برقت أساريرهما .. ورأيت فى نظرات الثلاثة المعرفة والسرور .. بلقاء الرجل ..
     وأمد الشيخ إبراهيم للمرأة العجوز .. بالورقة المالية التى أعطيتها له .. من ربع الساعة ..
     ـ ما هذا كله .. يا شيخ ابراهيم ؟
     ـ   رزق الأولاد ساقه الله اليهم ..
     ـ وأنت .. هل تعشيت ..
     ـ نعم .. تعشيت والشكر لله ..
     وشكرته المرأة .. بقلب حار .. معترف بالفضل .. وحيـاها الرجل وانصرف فى الطريق .. منكسا رأسه وحاملا المصاحف والكتب الدينية ..
     وعندما اقترب من مسجد السيدة زينب جلس على البـاب يعرض بضـــاعته على الداخلـين والخارجين من باب المسجد ..
     واشترى منه عابر طريق مصحفا .. ووضع خمسة قروش فى يده ..
     ورأيت العجوز يتحرك فى الميدان بسرعة .. ويشترى رغيفا واداما .. ويجلس فى جدار المسجد يتعشى ووجهه يفيض بالسرور ..
     وعندما دخلت المسجد لأصلى كانت صورة العجوز الإنسان لاتزال فى ذهنى .. ودعوت الله أن يمد فى عمره لأنه ينبوع خير للإنسانية .











=================================   
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966 =================================  









الوحش



غادر أحمد مدينة الإسكندرية بسيارته بعد الغروب بساعة .. وكانت الطريق خالية .. وريح الصيف تهب على البحيرة .. وبدت السماء صافية والطبيعة مشرقة .. وأنوار الإسكندرية تتلألأ فى السماء والماء ..
وعندما خرج بسيارته من أطراف البحيرة وركب الطريق الصحراوى واتجه إلى الجنوب كانت الظلمة طاغية .. وحبات الرمال على الجانبين تسبح فى بحر رهيب من الظلمات .. وكانت أنوار العربة الأمامية تلحس الظلام وتهز أستاره .. وسرعة السيارة تتجاوز 80 كيلو مترا فى الساعة وقد جعلته هذه السرعة متنبها إلى الطريق بكل وعيه .. ولكنه منذ ترك المدينة ودخل فى الصحراء وهو يشعر برجفة .. لا لأنه يرهب الظلام فقد ألف السير فى الليل واعتاد عليه وعلى ركوب الأخطار .. وإنما لأنه كان يشعر لأول مرة فى حياته بهزة لم يعرف مأتاها ..
وكان فى الثانية والثلاثين من عمره .. وسيما .. قوى الجسم .. حسن المظهر .. ومنذ ترك المدرسة واشتغل بالتجارة .. وهو يعنى بجسمه وهندامه ويحرص على صحته .. ولكن الحياة فى السنين الأخيرة .. أتعبته وجعلته يقطع أشواطها وكأنه يجرى فى سباق ..
وكان التفكير المتصل فيما اختار لنفسه من عمل .. قد أمرضه وأتلف أعصابه فى الشهور الأخيرة حتى فكر أكثر من مرة فى أن يغير نهجه فى الحياة .. ولكنه كان يشعر بالضعف أمام سلطان المادة التى كانت تجذبه إلى الأرض بقوة المغناطيس .. وشده .. وكان بريق الذهب يفتنه ويسيطر على حواسه .. ولم يكن التغيير سهلا على أى حال .. ولم يكن إلى هذه اللحظة قد تزوج .. ولا فكر فى الزواج .. لأن حياته لم تشجعه على أن يشرك أنثى فى مخاطره ..
وكان يتشاءم من الطريق الزراعى ويتوقع فيه شرا .. ولهذا تجنبه واختار هذا الطريق ..
وكان يحرص على أن يعبر بسيارته مخافر الحدود .. كأى سيارة أخرى ..
ولما رأى برج الاستراحة يلمع من بعيد ويدور فى الصحراء أسرع لأنه يشعر بالجوع .. وهناك تناول وجبة خفيفة وانطلق بعدها إلى القاهرة ..
وبدأ يرى على الجانبين الوديان والكهوف ولكن الأرض كانت تحته مرصوفة سوية .. فأسرع .. كأنه بساط الريح .. ولمح من بعد شيئا أسود يعترض طريقه .. فتمهل .. ثم وجد نفسه يضغط على البنزين وكان لايحب أن يقف فى الليل مهما كانت الأحوال ..
وظل أكثر من ثلاث دقائق وهو يسرع ويبطىء .. حتى وضحت أمامه الرؤية .. ورأى عربة سوداء .. كبيرة فى الطريق .. ورجلا بجوارها .. ولما اقترب رأى بجوار الرجل سيدتين .. وخشى أن يكون هذا فخا مصوبا له فى هذا الليل فلم يتوقف .. ولكنه أحس بعد أن شاهد السيدتين وهما تلوحان له بذراعيها العاريتين .. فضغط بقدمه على الفرامل بعنف حتى توقف .. وجرى الرجل إليه .. وعلم منه أن سيارتهم توقفت فى الطريق فجأة .. ورجاه أن يعطيه بطارية .. وعالج الرجلان العربة المعطلة دون جدوى .. وكانت السيدتان فى خلال ذلك تنظران إلى أحمد وتدرسان شخصيته ..
وأخيرا طلب منه سائق العربة أن يحمل معه السيدتين إلى القاهرة .. ففكر أحمد قليلا وهو ينظر إليهما فى الظلام .. ثم قبل ..
وركبت المرأتان عربته .. إحداهما بجواره والأخرى من الخلف ..
وكان يود أن يركبهما من الخلف معا .. دون أن يكون فى ذلك إيذاء لشعوره .. لأنه كان يحب أن يبقى وحيدا فى الأمام .. ولكنهما كانتا أسرع من تفكيره .. فلم يستطع أن يقول شيئا ..
وكلم السائق إحدى السيدتين لترسل له بنجدة فى الصباح .. وانطلق أحمد بسيارته .. وكانت المرأة التى بجواره صامتة والتى فى الخلف أكثر منها هدوءا وصمتا .. ووجد نفسه يحاول أن يعرف أيهما أجمل وأصغر ..
وبدا له من نظرة سريعة أنهما فى سن واحدة .. وإن كانت التى بجواره أكثر اشراقا من الأخرى وفتنة ..     
وعجب لأنهما لم تتبادلا معه كلمة واحدة .. ربما أحستا بروح المغامرة الآن .. وشعرتا بأن فى ركوبهما مع رجل غريب مخاطرة .. وأحستا بالخطر بعد أن ركبتا فعلا .. فصمتا .. أو صمتا لأنهما خجلتين ككل أنثى ..
ولكن الأمر بالنسبة له اختلف كلية فقد شعر وهو يمضى وبجواره أنثى بأن للحياة قيمة .. وقد كان يسرع فأصبح يسير .. متمهلا ويحرص على أن يركب ناحية الطريق .. وقد كان قبل ذلك لايهمه أن يندفع فى الرمال وينحرف ..
وسمع إحداهما تفتح فمها وتقول بصوت ناعم :
ـ أتعبنا حضرتك ..؟
ـ كلا لا تعب ..
وبعد هذا بثلاثين ثانية سمع المحرك " يدق " .. ثم وقفت السيارة ..
ونزل ولف حولها .. ثم رفع غطاءها ووجه إليها نور البطارية .. ثم عاد يعالج المحرك .. دون نتيجة .. فحول وجهه بقلق .. ونظر إلى السيدتين فرأى فى عينيهما الخوف الشديد ..
ولقد كانت الحركة وجريان السيارة هما اللذان يشيع فيهما الأمان أما الآن .. فقد شعرتا بالخوف .. وأدركتا مقدار ما ارتكبتاه من حماقة .. وبدا كأن شيئا ينفض جسمهما نفضا ويهزه ..
ودار أحمد مرة أخرى حول السيارة ثم نظر إلى الصحراء حوله وإلى السيدتين .. ولعن اللحظات التى جمعتهما به .. وأنحى على نفسه باللائمة لأنه أركبهما فى العربة .. وهو ذاهب لمهمة وليس لمجرد نزهة صحراوية ..
وفكر فى الأمر الواقع .. فكر فى أن يزيح العربة عن الطريق .. وأن يحاول أن يستوقف أى عربة تمر ليركب السيدتين فيها .. ويخلص نفسه من حمل ..!
وعندما بدأ يحرك العربة ويدفعها إلى الرمال .. نزلتا منها واشتركتا فى دفعها معه .. وشكرهما وهو يشعر بأن هذه الحركة البسيطة قد أوجدت رابطة من الود أخذت تنشأ بينه وبينهما وتتوثق ..
وأحس بهواء الليل الرخاء المنعش فى الصحراء .. وكان الليل قد انتصف .. ولم تمر أية عربة .. وخيم السكون وأرخى الليل كل أستاره .. وبدت الوحشة والصمت الرهيب ..
وترك للسيدتين العربة لتناما فيها ..
وتمدد هو على الرمال .. يدخن وأبدى لهما أسفه لأنه ليس معه غطاء ولا طعام .. فلم يقدر قط ما حدث .. وردت التى كانت تجلس بجواره بأنهما مستريحتان ولا تحتاجان لأى شىء أكثر ..
وسمع صوتهما يعود إليه الاطمئنان بعد الخوف ..
وبدت إحداهما كأنها تفك أزرار قميصها .. فأغمض عينيه ..
وأغلقتا زجاج النافذة الأمامى .. ثم لم يعد يسمع لها حركة ..
وأسبل عينيه .. وفكر فى حياته التى مرت سريعة ولمعت كالشهب .. وفى المال الذى جمعه بالآلاف .. وذهب وجاء غيره وذهب .. وفى الناس الذين يتعامل معهم ويتصل بهم .. فكر فيهم وما فى حياتهم من بشاعة .. ولقد انغمس معهم وجرفه التيار حتى أصبح واحدا منهم .. وصرخ ليحرر نفسه من هذا الاسار .. ولكنه لم يستطع ..
واعتمد برأسه على راحته وأغفى وهو جالس .. ثم تيقظ على حركة الباب وهو يفتح فى العربة .. ورأى السيدة التى كانت جالسة بجواره .. تنزل فأدرك أنها ذاهبة لشىء .. فتظاهر بالنوم حتى لا يخجلها .. ولكنه وجدها تقترب منه .. فرفع رأسه وسمعها تقول :
ـ لا أستطيع النوم ..
ـ أخايفة ..!
ـ أبدا ..
ـ بردت ..؟
ـ بالعكس .. الدنيا حر .. نجية نامت .. فى سابع نومة ..
ـ وأنت لماذا لم تنامى ..؟
ـ لأنى جوعى ..
ـ هذا ما لم نعمل حسابه ..!
ـ الجو يجعلنا نتغذى من الهوا .. هذه أول مرة تحصل لك ..؟
ـ تقصدين أنام فى الصحراء ..!
ـ نعم ..
ـ هذه ثانى مرة .. والمرة الأولى .. كنت فى صحراء غير هذه .. وكانت الليلة معتمة .. وباردة .. وأطلق علىّ الرصاص ..
ـ لصوص ..!
ـ لأ ..
ونظر إلى عينيها فى الظلام وصمت وعلى فمه ابتسامة .. ونظرت إليه ولم تعقب .. وقد عاودتها الابتسامة ثم وجدت نفسها تسأله :
ـ والآن .. إذا هاجمنا اللصوص .. ماذا تصنع ..
ـ أقتلهم ..!
ـ هل أنت مسلح ..؟
ـ بالطبع .. ما دمت أسير فى الصحراء ..
ـ سننام إذن مطمئنين ..
ـ كل الاطمئنان ..
ونظر إلى فستانها الأسمر .. وإلى شعرها .. وإلى وجهها البض وكان يود أن يعرف هل هى متزوجة .. أم لا تزال عذراء .. وكان يود أن تتحرك أمامه وتمشى .. ليميزها من خطواتها فإنه يستطيع أن يميز خطو العذراء من خطو الثيب .. وألح عليه هذا الخاطر .. حتى استغرق فيه وعجب لماذا يشتهى هذه المعرفة .. وليس له غرض من ورائها .. ولكن صوت السيدة وصباحة وجهها أسراه .. ووجد نفسه .. يشتهى الليل والصحراء والبرد والجوع من أجلها ..
ومدت رجليها وجلست مستريحة على الرمال .. ثم وجد النوم يداعب أجفانها .. ولاحظها حتى نامت واستغرقت فى النعاس .. ووجد نفسه لا يستطيع النوم .. لا لأنه يخاف على العربة وما فيها بل لأنه يخاف على السيدتين ..
ولكن التعب هده .. فأغفى فى مكانه ..
وتنبهت السيدة التى بجواره .. مذعورة على صوت النار .. ولما فتحت عينيها وجدت المسدس فى يده .. وشيئا أسود يعوى هناك .. وتراخت اليد التى تحمل المسدس وسقطت على الرمال .. والدم ينزف منها ..
واقتربت منه السيدة جافلة :
ـ ما هذا ..؟
ـ أسنان الوحش ..
ـ هاجمك وأنت نائم ..؟
فلم يرد .. كان يشعر بآلام حادة .. اندفعت إلى العربة وجاءت " بالترموس " وأخذت تغمس منديلها فى الماء وتمسح له جراحه ..
وقالت وهى تحرك يدها على الجرح :
ـ تصور كل الذى حدث .. ونجية لا تستيقظ ..
ـ تعبة .. خليها نائمة ..
وفتح عينيه ونظر إليها .. وشعر بالدنيا كلها تجرى أمام عينيه .. وصورتها بارزة فيه .. بوجهها وابتسامتها .. وعينيها الحلوة وكل ما فيها من جمال ..
وشعر بشىء يتمزق فى أعماق نفسه .. شعر باليد الجميلة .. تغسل أوضاره .. وتغسل كل ما فى نفسه .. من قذارة .. وتطهرها .. وتجلوها .. وترفعها أمام الناس ..
وعرف أن النائمة فى العربة أسمها نجية .. أما التى تغسل جراحه وتحنو إليه فلم يكن يعرف حتى اسمها .. ووجد يدهاعلى يده فأمسك بها وضغط .. وأحس بالدنيا كلها بين يديه ..
ونهض قبل شروق الشمس .. فوجد السيدة التى بجواره قد عادت إلى النوم .. فسر .. وأسرع نحو العربة وأخرج منها شيئا ضخما وحمله على صدره ومشى به فى جوف الوادى .. وهناك ألقاه فى فجوة عميقة .. ونفض يديه من التراب ..
وفى الصباح أصلحت العربة .. وانطلق أحمد بالسيدتين إلى القاهرة وعند الكيلو عشرة .. أوقفت العربة .. وفتشتها قوة من رجال المخدرات القريبة تفتيشا دقيقا ثم سمح لها بالمرور ..
وسألته السيدة الراكبة بجواره :
ـ علام يبحثون ..؟
ـ لا أدرى .. لقد تخلصنا من كل المتاعب .. ونسير الآن على طريق جديد .. والقاهرة أمامك بكل ما فيهامن جمال ..
وابتسمت .. ونظرت إلى حيث يشير .. ولما أحست بيده على يدها .. ضغطت عليها .. وأحس مرة أخرى بكنوز الدنيا كلها فى يده ..







======================= 
نشرت القصة فى مجلة " الجيل " بالعدد 281 بتاريخ 13/5/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
======================== 
   



القرية الوادعة


كانت قرية البساتين قرية صغيرة لا يتجاوز تعدادها ألف شخص وتعيش فى رخاء ..
وعلى الرغم من أن موقعها الجغرافى كان حذاء الجبل الشرقى ٍويجاورها من الشمال والجنوب ثلاث قرى تكثر فيها حوادث القتل والنهب .. ولكنها كانت وادعة مسالمة .. على خلاف القرى التى تجاورها ..
ولم تحدث فيها لمدى بعيد حادثة واحدة اهتزت لها أسلاك التليفون فى المركز ..
وكان أهلها بسطاء يزرعون الحب وينتظرون الغلة من الرب .. ويعيشون فى طمأنينة وقد جلب لهم الأمن العمل المتصل وسعة الرزق ..
وكانوا يحسمون أمورهم وخلافاتهم ومنازعاتهم فيما بينهم .. ولا يخرجون عن دائرة القرية .. فكانوا يحكمون شيوخهم فيما يشجر بينهم من نزاع .. ويرضون بحكمهم بصفة قاطعة .. وكان الشيخ عبد الحكيم من أبرز شيوخ القرية وأقربهم إلى قلوب أهلها .. وكان الرجل طيبا وقورا جليل الشأن .. فكانوا يفدون إليه فى كل أمور معاشهم  .. ويأخذون برأيه ويرضون بحكمه ..
ولم يقصدوه لجاهه وثروته فما كان الرجل غنيا ولا عريض الجاه .. وإنما كان أمينا صادق الكلمة .. فكانت كلمته مسموعة ورأيه هو الفصل ..
وكان فى الشتاء يشغل نفسه بزراعة فدانين له برسيما وقمحا .. وفى الصيف يحرس أجران القرية .. لأمانته ولأن بيته فى طرف القرية الشرقى وهو يطل على العرصة التى تتناثر فيها الأجران ..
وكان الفلاحون يذهبون إليه ليحل لهم مشاكل التقاوى والسماد .. والسلف الزراعية فيشير عليهم بالتعاون ويشجعهم على الاتجار فى نتاج الماشية .. وبيع الدواجن والبط والبيض وحثهم على كسب الرزق وهم صغار حتى يشبوا عن الطوق وقد تربت فيهم غريزة التكسب والسعى فى طلب الرزق وتحمل المشاق .. وعرفوا من رأيه السديد عدم الاسراف فى الجنازات والمآتم واختصار وقتها .. وكيف يواسون أهل الميت ويخففون وقع المصاب عليهم .. وكيف يمدون يد المساعدة للمريض والعاجز ..
وكيف يشتركون جميعا فى الأفراح والاتراح ..
وحدث بعد الغروب والدنيا شتاء أن ذهبت بقرة فلاحة تدعى خديجة .. على وجهها فى الحقول .. وضاعت منها .. فبكت الفلاحة .. وتقطع قلبها حسرات .. فلما سمع الشيخ عبد الحكيم بالنبأ وكان يعرف أن الفلاحة مسكينة وتعيش مع ولديها من بيع لبن البقرة وسمنها .. جمع لها ثمن البقرة من القادرين من أهل القرية واشترى لها بقرة جديدة .. فعادت الفرحة إلى قلب الفلاحة ..
ومرت الحياة هادئة رتيبة فى القرية لايعكر سكونها شىء .. ولم يكن أهلها يشاهدون العساكر .. أو سيارة المركز إلا وهى فى طريقها إلى القرى المجاورة فقد كانوا هم أنفسهم وادعين مسالمين .. يعيشون فى أمان ودعة .. ولم يدخل العساكر قريتهم قط ..
ولكن حدث ذات ليلة ما أفزعهم وأوقع الرعب فى قلوبهم .. فقد شاهدوا العساكر والهجانة المسلحين يطوقون القرية ثم أخذوا يفتشون مساكنها بدقة .. فذعر الفلاحون ثم وجموا ..
وأخيرا علموا أن سجينا من الذين كانوا يقطعون الأحجار فى الجبل هرب من نطاق الحرس ودخل من خندق فى الجبل إلى قاع المزارع وغاص فى خضم الحياة الواسع ..
ولما أدرك الحراس فراره .. استعانوا بالقوة من البندر .. وحاصروا القرى والنجوع والمزارع وأخذوا يفتشونها بحثا عن السجين وكان يتقدم القوة الهجانة قصاص الأثر .. فتتبعوا آثاره حتى دلت الآثار على أن السجين دخل قرية البساتين بعظمه ولحمه فآثار أقدامه غائرة فى الأرض الناعمة ..
ولما تيقنوا من وضوح الأثر شرعوا يفتشون بيوت القرية ودروبها بيتا بيتا .. ولاحظ أحد العساكر رجلا يجرى من الفزع فى غلس الليل فأطلق عليه النار إرهابا .. فازداد رعب الناس الآمنين ..
وطارت قلوبهم شعاعا وتواروا داخل البيوت ..
ومن بعد غروب الشمس إلى منتصف الليل .. وهم يفتشون دون أن يعثروا على الهارب ..
وكان رئيس القوة فظا غليظ القلب .. فكان يستشيط غضبا كلما فتح بيتا ولم يجد السجين فيه ويلعن من فى الأرض ويخرج من فمه السباب بغير حساب ولكن شيخ الخفراء الذى كان يرافقه كان يهدىء من طباعه ويلطف من حدة الجو .. وأخيرا بقيت المنطقة الشرقية من القرية الملاصقة للمزارع فأحاط بها العسكر .. وجلسوا يشربون الشاى ويستريحون بعض الوقت ..
ولما استأنفوا البحث .. كان نور الفجر يبزغ وكان التعب قد بلغ منهم منتهاه .. ولكن غيظهم من عدم عثورهم على بغيتهم كان أشد وقعا على النفس من التعب الجسمانى مما دفعهم إلى التحرك ومواصلة العمل ..
ولما بلغوا الدرب الذى فى نهايته بيت الشيخ عبد الحكيم وجدوا كثيفا من النخل يحوط ببيت فلاحة أرملة تعيش من نتاج النخيل وتربية الغنم .. ولذلك عنيت ببستانها فازدهر وآتى ثمره بالشهى المستطاب ..
وتوقفوا أمام بيت الفلاحة وحرابهم تلمع .. وقد أمسكوا البنادق بأيديهم ووضعوا الأصابع على الزناد ومستعدين لكل حركة وكل طارىء ..
ووقفت الفلاحة ملتاعة فقد رأت شبح السجين وهو يندفع إلى الحظيرة ويكمن هناك .. منذ ساعات والقبض عليه فى داخل بيتها معناه هلاكها .. فقد يتهمونها بأنها أخفته عن العيون .. ولم تدل عليه أو تخبر عنه .. وهى لاتحب أن تعبث اليد الغريبة فى غلتها .. وسمنها وعدسها وبصلها .. ولا أن تطير أرجل العساكر دجاجها ونعاجها .. وقفت ملتاعة على الباب وأسنانها تصطك من الخوف ..
ثم استجمعت شجاعتها وقالت :
ـ لا أحد فى بيتى ..
ـ سنتأكد من ذلك ..
ـ ستطيرون أفراخى وأنا وحيدة ومسكينة ..
ولكن رئيس القوة لم يعبأ بكلامها وتقدم ليدخل .. ورأى وهو يتحرك الشيخ عبد الحكيم يقبل فى الدرب وكان يعرفه جيدا فوقف وسلم عليه وسأله :
ـ ألم تشاهد أحدا غريبا هنا يا شيخ عبد الحكيم ..؟
ـ أبدا .. لم يدخل الدرب غريب قط ..
ـ ربما اختبأ فى الحظيرة وراء البستان ..؟
ـ أبدا .. لم يدخل أحد .. ولقد كنت ساهرا على باب بيتى والمنطقة كلها تحت بصرى ..
ـ متأكد ..؟
كل التأكيد ..
وحول رئيس القوة عساكره .. وبارحوا القرية ..
وبعد ذهابهم تسلل شبح قبل أن يطلع النور وهرب من البستان .. متخذا طريق المزارع ..
وسألت المرأة الشيخ عبد الحكيم .. وهو ذاهب ليصلى الفجر :
ـ هل كنت تعرف أن السجين فى بيتى يا سيدنا الشيخ ..؟
ـ أجل .. ورأيته وهو يدخل ..
ـ ولماذا كذبت إذن ..؟
ـ لأنى كنت أعرف أنه سيقاومهم .. وسيقتلونه .. وأنا لا أحب أن أرى إنسانا يموت ..
واكتسى وجهه بالألم ..
واستعبرت المرأة وهى تعرف خلق الرجل وتعرف أنها الكذبة الأولى فى حياته .. وأنه كان يتمنى لنفسه الموت قبل أن يقولها ..
====================== 
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
====================== 

درس


كان السيد إسماعيل موظفا فى الحكومة .. وقبل ان يحال إلى المعاش تزوج من شابة جميلة خوفا من أن يموت وترث الحكومة معاشه وكده ..
وكانت سميرة من أسرة متوسطة الحال ومحافظة ولكنها خرجت إلى بيت الزوجية فى الوقت الذى حصلت فيه المرأة المصرية على حق الانتخاب وعلى كثير من الحرية التى تطلبها ..
فوجدت نفسها فى جذب وشد بين القديم والجديد وظلت حائرة فى مفترق الطريق ..
ولكن زوجها خطا بها الخطوة الأولى نحو الانطلاق .. كان يحبها ولا يريد أن يحبسها فى البيت مع الخادمة .. فكان يخرج بها للتنزه .. يذهبان إلى السينما والمسرح .. وإلى كورنيش النيل .. ثم أصبح يجلس معها فى الكازينوهات والمقاهى العامة .. مع من اعتاد الجلوس برفقتهم من الصحاب ..
وكان إسماعيل يتصور أنه بعد الزواج سيستغنى عن هؤلاء الصحاب .. وعن الجلوس فى القهوة .. ولكنه لم يستطع أن يتغلب على عادة تأصلت فى النفس من أربعين سنة ..
وكان فى البداية يجلس معها إلى مائدة منزوية .. ويتركها وحيدة ويذهب إلى أصدقائه يلعب معهم النرد .. ويتحدث الأحاديث التافهة عن الأحوال .. وأسعار وفضائح الناس .. فى المجتمع ..
ثم تطور وأجلسها إلى مائدة ملاصقة لأصحابه .. ثم عرفهم بها حتى أصبحت تجلس معهم ..
وكانت تجلس صامتة مرتبكة .. ثم تجرأت وأصبحت تشترك فى الحديث وفى " التنكيت " وأحيانا تسمع نكتة يحمر لها وجهها ..
وكانت تنفر منهم أولا .. ثم وجدت أن منهم الظريف .. ومنهم المرح .. ومنهم القوى وجميل المحيا .. فكانت تجد فيهم الصفات التى حرمتها فى زوجها .. وأصبح الجلوس فى القهوة من أشهى أمانيها ..
وكان الصحاب بعد أن يشبعوا هوايتهم فى اللعب والمقاهى يلتفون حول مائدة الشراب .. وكان إسماعيل يشترك معهم فى شرب الخمر .. ولكنه لا يسمح أن تسكر زوجته ..
وذات ليلة قدم إليها منير " شوبا " من " البيرة " فرفضت :
ـ هذه ماء ..!!
وأمن الجميع على هذا القول ونظرت حائرة إلى زوجها .. فحمل لها " الشوب " بيده وبعد هذه الليلة أصبحت تشرب كلما شربوا ..
وكان منير هو الوحيد فى الصحبة الذى يملك سيارة .. فكانوا بعد الطعام والشراب والمتعة البريئة يركبون جميعا سيارته .. فيدور بها على بيوتهم .. ينزل كل واحد أمام بيته .. وكانت سميرة تجلس وحدها بجوار منير فى المقدمة .. ويركب باقى الرجال مع زوجها فى الخلف ..
وذات ليلة أحست بكتف منير تضغط على صدرها .. وكانت العيون تبرق من الشراب وفى الرءوس نشوة .. فلم تعر هذه الحركة التفاته ولم تتساءل إذا كانت قد جاءت عفوا أم عن قصد ..
وفى الليلة التالية أحست بأنامله التى ليست على عجلة القيادة تداعبها فى رقة فنفرت .. ثم استجابت وأصبحت الحرارة فى درجة واحدة فى الجسمين ..
وفى الليلة التى بعدها خيل إلى منير أنه يسوق بها العربة وحدها إلى عوالم لذيذة حالمة .. وأن الجالسون فى الخلف قد سقطوا متتابعين ..
ومرت الأيام وأصبح المقهى أحب شىء إلى قلب سميرة .. وأصبحت تبالغ فى الزينة وهى ذاهبة إلى هناك وتلبس أجمل فساتينها وأبدع ما يكشف عن مفاتنها ..
وكان منير يعزم الأصدقاء على العشاء والشراب كل ليلة وينفق بسخاء ولذة ..
وحدث أن عاد من السفر صديق جديد لهذه الجماعة ولم تكن سميرة قد رأته من قبل .. فقدموه لها وكان شابا قويا بارز الشخصية وأقرب الموجودين إلى مزاجها وسنها .. فراق فى نظرها وأصبحت لا تحول نظرها عنه .. وتبالغ فى زينتها ودلالها وتبرجها لتلفت نظره إليها .. وتحببه فيها .. ولكنها كانت كلما أمعنت فى الدلال وابراز المفاتن .. زاد نفوره منها ..
وذات مساء سمعته يهمس فى أذن رفيقه جعفر وهى تتحرك عن كرسيها ذاهبة إلى دورة المياة :
ـ عاهر ..
فانتفضت كأنما لسعتها عقرب وطارت كل أحلامها ..
وفى آخر الليل ركبت الجماعة .. سيارة منير كالعادة ليعودوا إلى بيوتهم .. وجلسوا ثملين وسنانين .. ثم تنبهوا على رنة كف .. دوت فى المقعد الأمامى كالقنبلة ..
وكان خد منير أحمر كالعناب .. وسميرة جالسة صامتة .. وعلى وجهها غضب النمرة المهتاجة ..
ولم يفتح أحد من الجالسين فى الخلف فمه .. كانوا أكثر خجلا وحقارة من الرجل الذى يسوق بهم العربة .. وكان إسماعيل قد فتح فمه .. ولكنه خرس .. شلت الحقيقة المباغتة لسانه .. وكان وجهه أكثر أحمرارا كأنه هو الذى تلقى الصفعة من زوجته ..




====================== 
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 26 بتاريخ 29/6/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
======================= 


الجــوع


     

     دخلت مطعم " لينج " لأتغدى بعد جولة طويلة فى شوارع هونج كونج مدينة الأعاجيب وكان يقع فى شارع " دى فو " شريان المدينة الرئيسى .. واشتهر بأطباقه الشهية ..
     واخترت مائدة مفردة فى القاعة التى تميل إلى الاستطالة ولها أربعة أبواب تتحرك بلولب .
     وكانت الستائر الحريرية المزخرفة بأجمل الرسوم مسدلة والمطعم فى نصف ظلام .
     وأضيئت جوانبه بقناديل حمراء صغيرة حتى فى النهار لأن الستائر حجبت عنه الضوء الخارجى كلية .
     وكانت الموائد يغطيها نسيج أرجوانى موشى بالزهور .
     والقاعة غاصة بالزبائن من مختلف أجناس الأرض .. وثلاثة من الخدم يتحركون بين الموائد فى ستراتهم البيضاء الزاهية .
     وجذب انتباهى رجل صينى فى حوالى الأربعين من عمره .. كان يجلس فى نفس الصف ويأكل بشراهة مذهلة وكل القرائن تدل على أنه يتناول هذه الوجبة بعد أن تمزقت أحشاؤه وعانى طويلا من سعار الجوع .
     وكان الشحوب الذى يتركه الجوع على وجه الإنسان لايزال بارزا على وجهه المستدير وعيناه قد انطفأ ما فيهما من بريق ..
     وبدت جيوب سترته منتفخة بما فيها من أشياء .. وشعره قد نبت بغزارة على عارضيه كما أنه لم يكن يعنى بملابسه .
     وكان مظهره كله يدل على أنه جواب آفاق .
     وأخذ يأكل فى صمت وبصره مركز على الصحون وذراعاه تطوقان ما فوق المائدة من طعام كأنه يخشى أن ينتزع منه .
     ومرت فتاة صينية حلوة بين الموائد حاملة صندوقا من السجائر .. فاستوقفها الرجل وتناول منها علبة .. وأرجأ دفع الثمن حتى يفرغ من الطعام .
     ودفعت الفتاة بابا صغيرا جانبيا وتركته مفتوحا .. فسمعت على أثر ذلك موسيقى خفيفة وعرفت أن الباب يفضى إلى ملهى فى نفس البناية .
     وكان الملهى يعمل فى الليل ولكن بعض فتياته كن جالسات هناك فى استرخاء وعيونهن لاتزال تشعر بالحاجة إلى النوم .
     ولمحت من بينهن غانية شابة جميلة جدا .. وكانت تجلس وحدها وعلى وجهها الشرود .. وما لبثت أن نهضت .. ودخلت قاعة الطعام .. واختارت مائدة جانبية خالية .. وطلبت قدحا من النبيذ تناولت منه جرعات ثم أشعلت سيجارة .
     وكانت ممتقعة الوجة وعلى خديها شحوب بارز .. وشعر رأسها أسود غزير وقد تركته ينسدل على جبينها ليخفى بقايا دموع فى عينيها .
     وكانت ترتدى الجونلة الصينية المشقوقة عند الفخذين وفوقها صديرية حريرية حمراء .. وبدت ضجرة وحزينة .
     ولم تستطع نضارة وجهها أن تخفى أحزان قلبها .. فقد كان فمها الصغير تتفتح شفتاه قليلا .. كما تتفتح الوردة فى رعشة خفيفة عندما يمسها الطل .
     ورغم الستائر المسدلة على أبواب المطعم ونوافذه .. فقد أحسست بشىء حدث فى الخارج .. فقد أخذ المطر يتساقط وهبت الريح فى شدة .. ولم يكن الجو باردا حتى فى ديسمبر ولكن جهاز التكييف كان يعمل .
     وتحركت السيدة السمينة صاحبة المطعم من مكانها عند " البنك " لما رأت الخدم يقدمون الحساء وهو آخر الصحون فى المطاعم الصينية .. وأخذت تحيى الزبائن وتسألهم عن المزيد من الرغبات .
     وفى أثناء جولتها حدث فجأة شىء رهيب .
     فقد أراد الرجل الصينى " جواب الآفاق " الذى كان يأكل بشراهة .. أن يتسلل من المطعم دون أن يدفع ثمن الطعام .. لأنه لم يكن معه نقود على الاطلاق .
     وأحس به الخدم فأوقفوه ودفعوه بعنف إلى الداخل وأعادوه إلى مائدته ليكون بجانب قائمة الحساب .
     وأخذت العيون كلها تحدق فيه بوحشية .
     وتطلعت إلى الرجل فإذا هو صامت يدير عينين مذعورتين وأصابعه تعجن طرف سترته .. تخاذل الرجل وانهار كلية .
     وأخذت النظرات الوقحة تعرى هذا البائس من ثيابه .. حتى بلغ به التأثر مبلغه .. فارتعشت شفتاه وعبر وجهه عن أقصى حالات الألم البشرى .
     وعلى اثر كلمة سمعها رأيته يقلب جيوبه ويفرغ كل ما فيها .. وبعد هذه الحركة .. غامت عيناه تماما وتصلب فكاه .. وحسبته قد أصابه الصرع .
     وصاحبة المطعم التى كانت توزع ابتسامتها وتفيض من عذوبتها على الزبائن .. انقلبت فى لحظة إلى نمرة متوحشة .. وأخذت تهدد بالصينية وتصدر أوامرها للخدم .. ثم أدارت قرص التليفون وهى فى حالة غضب .
     وتسرب الخبر إلى العابرين فى الطريق فأخذوا ينظرون إلى الداخل من خلال الستر .. ولولا أن باب المطعم كان مغلقا ووقف عليه حارس ليمنع الرجل من الهروب .. لدخلوا وأشبعوا الرجل سخرية .
     وتألمت لحاله .. ولكننى لم أغفر له خضوعه المطلق وذلته .. وكنت أود لو يتصارع معهم ويتضارب وهو يبدو قويا ..
     وخيم الوجوم على من فى القاعة عندما دخل رجل البوليس .
     وفى وسط الصمت المخيم رأيت الغانية الشابة التى كانت جالسة هناك وحدها وأمامها قدح من النبيذ .. تقترب من الرجل المسكين ..
     وتقول وهى تشير بيدها :
     ـ هناك ورقة ساقطة من السيد .. وانحنت والتقطت ورقة بمائة دولار هونج كونجى .. ناولتها للرجل .
     وكأنما بصقت بهذه الكلمات الندية على وجوه الموجودين فى القاعة جميعا ..
     وتناول الرجل الورقة ولم ينبس ..
     وكبرت المرأة فى نظرى وكبرت حتى حجبت كل من فى القاعة .
     وأدركت يقينا وأنا أنظر فى عينيها .. أنها ذاقت أكثر من مرة عذاب الجوع ..





=================================  
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم بالعدد 1071 فى 15|5|1965 وأعيد نشرها فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
=================================















النجوم



خرجت السيدة نعمات من منزلها مبكرة كعادتها كل صباح لتتسوق حاجاتها من سوق التوفيقية .. لأنها وحيدة وتعودت أن تختار أشياءها بنفسها .. ولأن فى الجولة الصباحية على الأقدام رياضة نافعة لها .. فقد أخذ جسمها يكتنز باللحم والشحم حتى ذهب جماله ..
وكان أول صباح لعيد الفطر .. وغالبية الحوانيت فى شارع طلعت حرب وما يتفرع منه من شوارع مغلقة بسبب العيد ..
ولكن الناس أخذوا يظهرون فى الطرقات وفى السيارات الذاهبة إلى القناطر وإلى حدائق الحيوان  .. وكورنيش النيل ..
كان صدى العيد وبهجته فى كل مكان إذ استحوز على الجموع نشاط مبهج وبدا الأطفال فى أثوابهم القشيبة .. والكبار فى ملابسهم المتأنقة وكان البشر باديا على الوجوه جميعا ..
ولكن السيدة نعمات كانت تشعر بالمرارة وهى تمشى عبر الشارع لأنها قضت ليلة العيد وحدها فى كآبة مطبقة لم يذكرها إنسان ممن كانت تعرفهم ولم تصلها بطاقة معايدة من أى شخص ..
وعند مفترق الطرق وقفت أمام بائع صحف تبحث عن كتاب كانت قد قرأت عنه اعلانا منذ أسبوع ونسيت أن تشتريه فى وقتها .. ولما وجدت الكتاب سرت جدا .. إذ كأن كتاب " حظك " هو تقويمها وخط حياتها المرسوم .. فى لوح القدر ..
وأخرجت للبائع جنيها .. فأبدى أسفه لنقص الفكة .. ووقفت حائرة تتطلع حولها .. والكتاب لا يزال فى يدها .. إذ كانت الرغبة فى اقتنائه شديدة ..
وخشيت إن تركته ألا تجده فى مكان آخر .. أو تلقى نفس العذر ..
وأنقذها من حيرتها شاب طويل رشيق القوام وقف أمام البائع وسمع ما دار من حوار فأخرج ثمن الكتاب من جيبه وشكرته السيدة نعمات بلطف وأصرت على أن يرافقها إلى أن تجد الفكة لترد له قروشه الخمسة .. وتحت إلحاحها مشى معها إلى السوق وشعرت بالراحة لرفقته فى مدى الخطوات القليلة فقد كانت المسافة التى قطعاها معا لا تتعدى مائة خطوة .. وبادلته أحاديث خفيفة حتى وقفا أمام متجر فابتاعت منه كميات من الأطعمه .. والأشياء الأخرى طويت فى لفائف كثيرة حتى أشفق عليها من حملها ..
 وقبل أن تضع باقى الجنيه فى محفظتها ناولت الشاب القروش الخمسة فأخذها مبتسما إذ أدرك شدة حساسيتها ورقتها المتناهية .. وهم بأن يحييها وينصرف ولكنه وجدها تنوء بحملها فأشفق عليها وتناول من يديها الجزء الأكبر مما كانت تحمل ..
ورجعا من نفس الطريق ..
وأخذت أشعة الشمس تسطع ومدينة القاهرة كلها تلبس حلة العيد ..
وكان الشاب يسير برفقة السيدة نعمات على الرصيف الأيسر فى شارع طلعت حرب متجهين إلى بيتها فى سكة الفضل بحى قصر النيل .. فلم يمشيا إلا خطوات قليلة .. وكان يلاحظها ويشفق عليها فى كل خطوة وكان جمالها الغارب قد ترك بقايا بريق أخاذ فى العينين العسليتين .. وفى الشفة القرمزية التى لا يزال يجرى فيها دم الحياة .. وبدت متأنقة فى ملبسها ما وسعها الجهد .. وطالية وجهها بالمساحيق وعينيها بالكحل ومخفية بقدر ما تستطيع من التجاعيد التى ظهرت على الوجه الذى ترك جمال الشباب عليه ظلالا باهتة ..
وصعدت صامتة إلى الدور الثالث فى بيت من البيوت القديمة .. وعلى الباب كان الشاب يود أن يستأذن منصرفا ولكنها دعته بتوسل إلى الدخول ليشرب فنجانا من القهوة ..
شعر بوحدتها القاتلة فدخل وأجلسته فى الصالة مرحبة .. وغابت قليلا فى المطبخ تعد القهوة ..
وأخذ يحدق فيما حوله بعينين نفاذتين كانت الشقة داخلية لا تطل على الشارع وصغيرة لا تتعدى غرفتين وصالة .. وأثاثها بسيط وقديم .. ورأى النوافذ مغلقة والشقة غارقة فى الظلام ..
وأحس بها وهى تفتح نافذة جانبية من هناك فيتسرب الضوء إلى الصالة ورأى صورة كبيرة لشابة جميلة فى ملابس الرقص .. معلقة أمامه .. فأخذ يحدق فيها بتمعن ..
ودخلت عليه نعمات بصينية القهوة ولاحظت نظراته ..
فقالت بصوت خافت .. وقد ارتسم ظل الماضى على وجهها ..
ـ إنها صورتى .. ألم تسمع براقصة اسمها نعمات ..
ـ ومن الذى لا يعرف أشهر راقصة فنانة وممثلة فى السينما ..
ـ أجل .. ومثلت أيضا .. أيام ..
وأخذ يتأملها ويتأمل مسكنها وأثاث بيتها .. وانقبض قلبه حين رأى ما هى عليه من فقر وتساءل من أين أتت بالجنيه .. هل .. وأبعد هذا الخاطر عن ذهنه .. وأطرق ..
وسألته وهى تتناول الفنجان :
ـ أمعك سيجارة ..؟
فأخرج لها العلبة سريعا .. وأشعل لها سيجارة ..
فأرسلت نفسا طويلا وعيناها مغمضتان وقالت كأنها تسترجع شريط الماضى ..
ـ كانت أوراق البنكنوت من المائة جنيه والخمسين جنيه تشعل لى هذه السيجارة .. أما الآن فتمر أيام لا أجد فيها ثمن عود الكبريت .. دنيا ..
وتناولت رشفة من الفنجان .. ثم وضعته على النضد ..
ـ وفى ليلة العيد .. لم يزرنى أحد .. من كل الناس الذين كنت أعرفهم ولم يعيد علىّ إنسان .. شعرت بالضياع .. بالانقطاع .. وعندما خرجت بعد الغروب لمدة ساعة واحدة سرقوا منى الساعة وأنا نازلة من الترام .. لم يجد النشال غير سيدة وحيدة مسكينة يسرقها ..
وأسف الشاب لحالها .. وسأل :
ـ أتقيمين .. هنا من زمان ..؟
ـ من ثلاثين سنة .. وكان الحى كله ملكا للأجانب حتى الحوانيت الصغيرة كانت لهم .. وكنت أعيش وسطهم كاليتيمة .. أشياء فظيعة لم ترها لأنك صغير .. كم عمرك ..؟ غايته عشرين ثلاثة وعشرين ..
ـ تماما ..
ـ إذن فلم تر المحن التى كنا نعيش فيها وكانت تمزق قلوبنا كانت هناك سينما أجنبية فى شارع عماد الدين تحرم على المصريين دخولها .. آه من الأجنبى عندما كان يتسلط محتميا بالإنجليز .. يصبح فظيعا .. وأشد ضراوة من الاستعمار نفسه ..
والآن أنظر كيف وصلنا .. وتخلصنا من هذا البلاء كله ..
واستطردت وهى تدخن .. وكأنها لم تجد من تحدثه من قبل :
ـ ورغم نكران الناس لى ولكنى سعيدة لأنى أرى الحياة تتحول من حولى فى هذا الشارع وفى هذا الحى وأصبح كله ملكنا .. كل شبر فيه .. ذلك احساس لا يدركه الإنسان العادى ..
ـ وأنت هنا وحيدة ..؟
ـ أجل وحيدة ولم أتزوج أبدا وكان يغنينى عن الفن .. وكل ذلك البهرج الكاذب .. ولد أرى فيه صورتى وامتدادا لحياتى .. وأحس بأنى عشت لغاية .. أما الآن فوجودى لامعنى له .. حياة خالية من الغاية ..
وارتسم الأسى على وجهها .. وسألته وهى ترى ظلال الضحى تنسحب عبر النافذة :
ـ هل أنت فى أجازة العيد ..؟
ـ أجل ..
ـ وتعمل فى القاهرة ..؟
ـ لا فى الإسكندرية ..
ـ أين ..؟
ـ فى الترام ..
ـ كم أود أن أذهب إلى هناك .. وأشاهد البحر .. من سبع سنوات لم أره .. كم أنا مشتاقة إلى صوته وموجه أنه مهول ..
ـ سأجىء بعد أسبوعين فأصحبك إلى البحر ..
ـ حقا .. كم أشكرك لو فعلت هذا ..
ونظرت إلى وسامته ورأت على وجهه التعب .. فسألته :
ـ هل سهرت ..؟
ـ أجل سهرت حتى الساعة الثانية صباحا وكان الزحام بالغا أشده فى السينما والأتوبيس والترام .. فى كل مكان كان الزحام .. وأنا أحب الزحام ..
ـ إلى هذا الحد ..
ـ فى الواقع أحس بالحياة أكثر تدفقا وسط الجموع .. أحب أنفاس الناس ..
كانت أسارير وجهه تنطق بالذكاء وأعجبت به جدا .. وودت لو كان يعمل فى القاهرة ليزورها من حين إلى حين ويؤنسها فى وحدتها ويخفف عنها آلامها ..
وكان قد أنساها وجوده وحديثها معه الكتاب الذى اشترته فناولته له وهى تتطلع إليه بقوة ..
وقالت :
ـ اقرأ لى حظى .. فى هذه السنة .. فالحروف صغيرة .. وعيناى لا تقويان على قراءتها بسهولة أما أنت فتستطيع ..
ـ أى برج ..؟
ـ القوس ..
فتطلق وجهه ليخفى مظهره ما رآه فى الكتاب .. وقال لها كلاما من فكره ..
ـ سفر قريب .. وسعادة فى الحب .. ورسالة تصلك من شخص عزيز .. ومال يأتيك ..
ـ صحيح ..
ـ هذا هو المكتوب ..
ـ حب وسفر ومال يأتى ..
وأحس الشاب بالفرح .. لأنه فعل شيئا بعث فيها الابتهاج والأمل ..
وقالت وهى منتشية .. من الفرح :
ـ سأرقص لك رقصة .. لم أرقصها من قبل لإنسان ..
ودخلت غرفتها .. ورجعت ترتدى حلة الرقص .. ووضعت زهرية على رأسها وأخذت تتمايل وترقص رقصا جميلا متأنيا فى براعة وفن .. كان رأسها الذى يحمل الزهرية ثابتا .. وجسمها يتمايل .. كل جوارحه .. وعيناها شبه مغلقتين وأنفاسها منبهرة ..
كان عقلها ينسحب إلى ماضيها البعيد عندما كانت ترقص وتهز المشاعر ..
وأحست بالهدير .. هدير الجماهير وهى تصفق فى جنون ..
وسح منها العرق .. وأغلقت عينيها وارتمت على الكنبة .. وكانت أنفاسها هى الدليل على أنها ما زالت حية وعندما فتحت عينيها وجدته يصفق لها .. ودون أن تتمالك نفسها ارتمت عليه واحتضنته وأخذت تقبله فى جنون ..
ومشت إلى غرفتها لتخلع حلة الرقص ..
وبحث هو فى جيوبه .. وأخرج لها ساعة جميلة وثمينة .. من ثلاث ساعات كان قد نشلها أمس فى زحمة العيد .. ووضع الساعة على النضد ..
وخرج متسللا قبل أن تشعر بحركته ..
ولما رجعت .. لم تجده .. ووجدت الساعة على النضد .. فتناولتها فى يدها وأخذت تنظر إليها .. أنها أجمل من الساعة التى سرقت منها وأثمن .. ولكن أين ذهب الشاب الذى نضر لها وجه الحياة ساعات .. أين ذهب .. راحت فى دوامة من الأفكار ثم أخذت أناملها تتحسس الساعة برفق وحنان ..


======================== 
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم بالعدد 1073 بتاريخ 29/5/1965 وأعيد نشرها فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
======================== 


بداية طيبة


جلست ذات ليلة صيفية فى كازينو فينوس بضاحية مصر الجديدة .. استمتع بالهواء الطلق وبالمناظر الجميلة المحيطة بى وبالحسان المارات فى الطريق والجالسات فى شرفة الكازينو ..
ولمحت وأنا أدير بصرى فى المكان شخصا أعرفه كان يجلس إلى مائدة منزوية بعيدا عن الناس .. وبجواره سيدة شابة يبدو عليها أنها تجلس فى مكان عام لأول مرة فى حياتها .. فقد بدت مرتبكة خجلة ..
ولما رآنى حمدى حيانى بهزة من رأسه وابتسامة .. ولاحظت السيدة التى بجواره حركته فزاد خجلها ..
والواقع أننى عندما رأيته .. كدت أنكره .. فقد تغير .. وحل محل الشاب النحيل الممشوق القوام الذى أعرفه شخصا آخر .. سمينا ذا كرش وبدا خداه منتفختين .. وخطوط وجهه مدورة كالرغيف الخارج من التنور ..
وكنت ألتقى بحمدى فى أكثر من مكان فى القاهرة .. أراه فى الجمعية الجغرافية .. وفى قاعة ايورت .. وفى كنيسة جماعة القديسين يستمع إلى موسيقى باخ .. وفى معارض التصوير والفن .. فقد كان إنسانا مثقفا .. ومن طراز نادر فى الاطلاع والمعرفة .. وبدأت أول معرفة به فى دار الكتب .. وكنت أراجع بعض التراجم الإنجليزية لألف ليلة وليلة على طبعة بيروت عندما قدمنى إليه ملاحظ القاعة وكادت المعرفة تتطور إلى صداقة مؤكدة .. لولا أننى لاحظت أنه بوهيمى .. وأنه يعيش كيفما اتفق .. وكان شغوفا بالنساء مولعا بصحبتهن .. فقليلا ما أراه وحده فى الطريق .. ولكنه كان يهجرهن لأتفه سبب .. ومن الغريب أن علاقته بهن كانت تتوكد فى سبع حالات من تسع بالزواج ..
وكان يقع على نوع معين من النساء لا يغيره قط .. النوع الرقيق المشاعر الطيب الخجول الخافت الصوت .. الذى يتألم فى أعماقه من علة ظاهرة أو مستخفية .. كنمش خفيف على الوجه ونحافة مفرطة فى الساق .. أو ضعف قليل فى النظر فترتدى المنظار وتكون الظاهرة فى الواقع بسيطة .. وتافهة ولكنها تتمكن من نفس الأنثى وتذهب ببهجتها .. فإذا جاءها هذا الرجل المكروش وقرع الباب .. فتحته على مصراعيه ..
وكان صواحبه من المتعلمات ومنهن من تلقت دراستها فى الخارج .. فإذا عادت .. عانت أشد الكرب .. من ضغط البيئة ..!
وكان يلقاهن بمنتهى السهولة .. ودون أن يبذل أدنى مشقة .. يلقاهن فى قاعة للمحاضرات .. أو فى مجتمع ثقافى .. أو فى ندوة خاصة ..
وتبدأ البداية .. بالحديث عن الحياة الاجتماعية والموسيقى والأفلام ..
ولما كانت السينما هى أشهر هذه الأشياء .. فالحديث يقف عندها ويطول .. ثم يعرض على الفتاة مشاهدة سلفانا بانبانيتى أو لولا بريجدا .. أو آفا جاردنر ..
ولما كانت الفتاة متعلمة ومثقفة مثله فهى تريد أن تثبت وجودها كامرأة لها حق الانتخاب .. فتصر على أن تكون هى صاحبة الدعوة ويتظاهر هو بالرفض .. وينتهى الحوار بأن تتقدم هى إلى شباك التذاكر ..
فى كل مرة يحدث هذا .. ثم تتطور العلاقة التى تبدأ هذه البداية الطيبة .. إلى الزواج .. وتكون هى غالبا موظفة فى بنك أو شركة أو تشتغل مدرسة .. ويكون هو لا عمل له .. فتبدأ بالصرف عليه .. ويستكين هو للراحة .. ويكتفى بالاطلاع والمعرفة .. وسماع الموسيقى وشرب البيرة .. وأخيرا تتنبه إلى غفلتها وتشكو من بطالته .. ويكون هو قد ضجر منها .. فينفصلان بالطلاق ..
أخذت أراجع شريط حياته .. وهو جالس هناك .. ثم نهض ومعه رفيقته .. وحيانى من بعيد .. ووجدته بعد ذلك بنصف ساعة واقفا على باب سينما نورماندى .. وكانت رفيقته على الشباك تقطع تذكرتين ..!
ورأيته بعد هذا .. يسير فى شارع سليمان باشا مع فتاة طيبة أعرفها .. تشتغل مدرسة موسيقى .. ولم تكن نادية تشكو من أى علة ظاهرة .. بل كانت حلوة .. وجمالها فوق مستوى أترابها ..
وعندما رأتنى احمر وجهها .. ولما قدمنى لها قالت له أنها تعرفنى من المعهد الموسيقى .. وجلسنا ثلاثتنا فى الأمريكين .. وأخذ يحدثها عن نظرية حديثة فى علم الاقتصاد .. ويشرح لها رأى شاخت .. وكان ظاهرا عليها عدم الفهم كلية .. ولكنها كانت تصغى إليه بانتباه تام ..
والواقع أن هذه كانت بدايته .. يضفى جوا من الغموض على نفسه .. ولم أسترح أنا لصداقته بهذه الفتاة .. وخشيت عليها من نزواته ..
فلما وجدتها ذات يوم وحدها سألتها :
ـ كيف عرفت حمدى ..؟
ـ التقيت به فى الأوبرا .. وسررت لثقافته الموسيقية العالية .. إن عنده مجموعة ضخمة من الاسطوانات .. كل سيمفونيات بيتهوفن وكل الأوبرات العالمية .. تصور ..
ـ وهل هو وحده الذى عنده هذه المجموعة من الاسطوانات ..؟!
ـ الواقع أن روحه خفيفة .. وضحوك .. وأنا أريد أن أضحك ..
ـ أتعرفين .. أنه متزوج .. أنه متزوج .. حتى الآن أكثر من عشر ..
ـ أعرف كل شىء .. ولماذا هذا السؤال ..؟
ـ أخاف أن تقعى ..
ـ وهل أنا مجنونة ..؟!
وفى الخميس الماضى ذهبت إلى سينما ديانا لأشاهد فيلما بطله أنطونى كوين .. ووقفت فى الصف لأقطع تذكرة فى الصالة .. وسمعت وأنا واقف صوتا خافتا أعرفه يقول لعامل الشباك :
ـ تذكرتين بلكون من فضلك ..
فتلفت .. فوجدت نادية .. واقفة فى صف البلكون .. وكانت مستغرقة فى نشوتها .. فلم تحس بوجودى على مدى متر واحد منها .. كانت غارقة بكليتها فى الحلم اللذيذ .. حلم العذراء ..
وعندما استدرت .. وابتعدت عنها .. رأيت حمدى يقف هناك على الباب الخارجى فى زاوية منعزلة .. يدخن ويرقب فريسته .. وعلى شفتيه ابتسامته الأبدية ..






======================== 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 226 بتاريخ 23/4/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
=======================














المظلة اليابانية



وقفت عصر يوم من أيام الصيف فى ميدان التحرير .. أنتظر سيارة الساعة السادسة الذاهبة إلى الإسكندرية ..
وكان اليوم قائظا يتنفس بمثل النار الحامية والضغط على سيارات الطريق الصحراوى بلغ أشده والشركة قد أعدت للأمر عدته فسيرت سيارة فى كل نصف ساعة ..
وما كنت أحب الزحام .. ولا التدافع بالمناكب على شبابيك التذاكر .. ولكن لم يكن من السفر بد .. فوقفت فى الصف ..
وعثرت بعد شق النفس على تذكرة زوجية تحمل رقم 24 فى مقعد من المقاعد الخلفية لسيارة من سيارات " السهم الذهبى " .. وكان ما يشغلنى أن أعرف الراكب الذى بجوارى فى هذا السفر الطويل والذى يحمل التذكرة رقم 23 لأنى أكره التدخين ولا أحب أن يجلس بجوارى مدخن يظل يرمى الدخان فى وجهى وخياشيمى ثلاث ساعات كاملة فى هذا اللهيب ..
ولم أكن فى حالة نفسية تجعلنى أطيق رائحة الدخان .. إذ كنت على درجة شديدة من التوتر العصبى والغم النفسى جعلانى أتبرم بكل شىء فهربت من عملى ومن بيتى وأنا أحس بالاختناق ..
وجاءت السيارة أخيرا تتهادى فى الميدان الواسع واندفع إليها الركاب ..
وكنت آخر من صعد إليها .. وتحركت فى ممشى العربة ببطء وأنا أتفرس فى الوجوه حتى وجدت جارتى فى السفر .. وكانت سيدة شابة تضع فى حجرها كتابا .. وفوقه مظلة يابانية مطوية ..
ورمقتنى بنظرة سريعة وأنا أجلس فى هدوء بجوارها ..
ولما تحركت السيارة أحسست أن أيام شقائى قد انتهت فى هذه اللحظة وأننى بدأت مرحلة جديدة من حياتى ..
وأخذت أجيل الطرف فى المقاعد التى أمامى وكان بالسيارة 28 راكبا نصفهم من النساء والأطفال ..
ورأيت من بين الركاب .. راكبا أعرفه جيدا ويدعى عبد السميع وكان يجلس فى الكرسى الذى أمامى مباشرة .. وهو رجل سمين غليظ العنق ذو كرش بارز أغبر السحنة .. وكان قد جمع كل الصفات الدنيئة التى فى بنى البشر ..
وكنت قد التقيت بهذا الرجل منذ سبعة أشهر وأنا أرافق صديقا وعروسه .. وكانا قد راقتهما شقة فى عمارة يمتلكها هذا الرجل فى حى الدقى ودفع له صديقى مائة جنيه هى كل ما ادخره فى حياته ليحتجز له شقة وكانت العمارة لم تستكمل بناؤها بعد .. وسلمه المبلغ طبعا من غير ايصال .. وكلما طلب منه صديقى تحرير عقد الإيجار .. يقول له :
ـ لسه لما تخلص العمارة يا ابنى ..
ولما اكتمل بناء العمارة .. قال له :
ـ آسف لقد استأجرتها الحكومة ..
ولم يرد له المبلغ ..
وكان كاذبا إذ أجر الشقة لغيره بعد أن أخذ منه ضعف هذا المبلغ ..
وأحسست بيدى تود أن تخنق هذا الرجل ..
ولكن وجود جارتى الحسناء بجوارى منعنى من هذه الحركة ..
وكان الرجال جميعا يدخنون .. أما النساء فكن يناغين الأطفال ..
وكانت جارتى الحسناء محولة وجهها إلى النافذة .. ويدها اليمنى تحرك المظلة التى كانت مغلقة دوما .. وأشفقت عليها من هذه الحركة حتى كنت أود أن أتناول منها المظلة وأضعها على الرف .. ولكننى خمنت بأنها مظلة صغيرة للزينة ليس إلا .. وفى استبقائها فى يدها مظهر من مظاهر الأناقة ..
وبدأ الحديث بينى وبينها طبيعيا وبمنتهى البساطة وكان بسبب الستارة التى تحجب الشمس إذ كنا فى اتجاهها الغارب .. وكانت مفصلات الستارة غير سوية فعالجتها لها حتى حجبت الشمس عنها .. وتركنا فرجة صغيرة بين الزجاج تدفع إلينا هواء باردا منعشا رطب وجهينا ..
وبدأنا بالثناء على السفر فى السيارات المريحة فى الطريق الصحراوى بعيدا عن التراب ..
ثم بالحديث الخفيف عن وجهتنا وغرضنا من السفر ..
وقلت لها بأنى ذاهب للإسكندرية لتمضية أسبوع أستريح فيه من عناء عملى الشاق ..
وحدثتنى أن هذه هى أول رحلة لها فى حياتها إلى الإسكندرية ..
وتلقيت هذا النبأ فى عجب لأنها كما بدت فوق العشرين من عمرها عصرية ومن طراز متفتح ذات يسار ولا ترهقها نفقات السفر ..
وزال العجب لما .. عرفتنى بأنها الأب وأنها تعول وتلازم أمها المريضة ..
وأخذ العشى يلفنا فى شملته ..
وفى خلال حديثنا ونظراتنا عبر الصحراء التى أخذت تدخل فى الظلمة .. تنبهنا على حركة من السائق بدت غير طبيعية .. إذ انحرف إلى يمين الطريق ثم توقف فجأة ..
وأصابنا الذعر إذ تصورنا خللا طرأ على المحرك ..
وتقدم إليه أحد الركاب فى المقاعد الأمامية وأخذ يحادثه لحظات .. ثم نزل الاثنان معا إلى المحرك ..
وعرفنا أن السائق عندما بدأ يعالج النور لما خيم الظلام وجده معطل تماما فآثر السلامة بالتوقف .. حتى تمر سيارة من سيارات الشركة فيبلغها الأمر .. والشركة ستعالج الموقف بارسال سيارة أخرى للركاب ..
وأصابنا الكرب الذى يصيب كل من تتعطل به سيارة ..
وفجأة لمحنا بطارية فى يد الراكب الذى نزل مع السائق ويد تتحرك على نورها الضعيف وتعالج الأسلاك ..
وفى أقل من نصف الساعة .. أضاء نور السيارة وشق قلب الصحراء ..
وكدنا من الفرحة أن نعانق الرجل الذى أصلح الخلل .. وهو صاعد بهدوء إذ تحرك الركاب جميعا نحوه ليروه عن قرب .. ولما اقترب منى عرفته .. إذ كان من معارفى وانقطعت عنى أخباره منذ عشرين سنة ..
وكان مهندسا كهربائيا فى حى شعبى ويقوم بالأعمال الكهربائية فى معظم العمارات التى تنشأ حديثا .. شهيرا بشىء تخصص له وبرع فيه .. إذ كان يقوم باعداد الزينات الكهربائية فى الأفراح ..
ويقوم بعمل شيطانى خارق إذ يوقف العداد الذى يسحب منه نور الفرح دون أن يلاحظ ذلك أحد حتى دوخ شركة ليبون بحيله وبراعته ..
وكان يبتسم ويقول لى معللا فعلته :
ـ أننى أفعل هذا للفقراء والشركة غنية وجشعة تأخذ ولا تعطى إلا القليل فمن العدل أن أقيم الميزان بالقسط ..
وكان مرحا ضاحك السن طلق المحيا أبدا وفى خلال عشرتى الطويلة له لم أره مستاء من أى شىء أبدا ..
ولم يكن يتقاضى من أصحاب الأفراح عن هذا العمل إلا أجرا زهيدا .. وكان بارعا فى صنعته كمقاول للأعمال الكهربائية ..
وكان أعزب وشغوفا بالنساء ولا أدرى حاله الساعة بعد مرور هذه السنين ..
وعرفنى وأنا أقترب منه فأسرعت إليه وعانقته ..
وقلت له :
ـ سألقاك فى الاستراحة ..
إذ لم يكن فى العربة مجال للحديث وعدت إلى مكانى بجوار الآنسة سعاد .. وسألتنى :
ـ هو الذى أصلح النور ..؟
ـ أجل ..
ـ يفعل ما عجز عنه السائق .. إنه بارع ..
ـ أبرع الناس طرا .. لم أجد له فى حياتى ضريبا ..
ـ صحيح فى الظلام وعلى ضوء بطارية خفيفة يفعل هذا .. إنه بارع حقا ..
وأخذت أحدثها عنه فضحكت لما علمت من أحواله وبعض سجاياه ..
ولما بلغنا الاستراحة جلس معنا فى الشرفة وأخذنا نأكل البطيخ .. وحدثنى عن بنسيون سينزل فيه واختاره لى .. فوعدته أن أنزل فيه اكراما لصحبته وأخذ يقص علينا نوادره وأحواله حتى أثلج قلوبنا ..
ولاحظت أنه لم يتغير فيه شىء قط .. فما ظهرت عليه أدنى معالم الشيخوخة مع أنه يقترب من الستين .. ولا قلل من مرحه ونوادره ..
وقضينا معه ربع ساعة هنية .. وكانت سعاد مسرورة بلقائه لمرحه الزائد وعذوبة حديثه ..
وتحركت السيارة وأخذت تنهب الأرض إلى الإسكندرية .. وشعرت أن الألفة قد زادت بينى وبين سعاد إلى الحد الذى أشعرنى بالخوف .. إذ أن السرعة ستقلل من زمن سعادتى وتمنيت أن تسير السيارة أبطأ وأبطأ حتى تبلغ الإسكندرية فى الصباح وكنت أخشى أكثر من كل شىء أن نفترق .. فى محطة الرمل .. ولا أراها بعد ذلك أبدا .. وكنت أود أن تخب بنا السيارة خببا فى هذا الطريق السوى .. حتى نصل فى منتصف الليل ..
وقبل أن نبلغ العامرية رأيت منطقة التعمير  الجديدة وزراعة البطيخ والخضر على الجانبين وشاهدت بيوتا جديدة أقيمت للفلاحين والعاملين فى المنطقة .. وشعرت بفرحة .. وتملكنى إحساس من الزهو لم أستطع دفعه ولا اخفاءه عن جارتى ..
وكان لها مثل شعورى .. فالأرض الموات قد أحييت فى مدى سنين قلائل واهتزت تربتها وجرى عليها الماء الذى جعل كل شىء فيها حيا ..
ولقد كانت السيارة فيما مضى .. تسير فى تيه قفر من الصحراء الموحشة فأصبحنا اليوم نمشى بين صفين من الخضرة .. وأوراق الزرع الناضرة تتمايل مع الريح ..
وغمر ركاب السيارة جميعا موجة من النشاط لما بصروا بالفلاحين من حولهم يعملون .. والأرض نبتت فيها الحياة ..
وسألتنى سعاد :
ـ هل سافرت فى هذا الطريق من قبل .. ورأيت هذا التحول ..؟
ـ الواقع .. أننى لم أسافر فيه .. منذ سنين .. ولم أر هذه الخضرة الجميلة إلا الآن ..
أنظرى كيف يصنع الإنسان .. إذا أراد .. تغلب على الطبيعة .. وقلب الصحراء إلى جنة ..
ـ صحيح أنها جنة ..
ـ كم أنا مشوق .. إلى تمضية نهار بطوله هنا .. وسط هؤلاء الناس .. وما أجمل ليل الصحراء .. إذا جمع بين الخضرة الناضرة والجمال الفاتن ..
ـ إن أعصاب سكان المدن .. فى حاجة إلى مثل هذا الهدوء .. وكان هذا ما أتوق إليه وأود أن أحققه لنفسى .. كنت فى حاجة شديدة إلى تمضية شهر كامل فى الصحراء حيث لا جلبة ولا ضوضاء .. ولا أصوات البوق .. ولا هزة القطارات ولا التدافع بالمناكب فى ركوب السيارات والنزول منها ولا الانتظار بالساعات على المحطات .. ولا التناحر والتنافس للحصول على شىء ما ..
كنت فى حاجة لأن أعيش فترة طويلة عيشة صوفية لأسترد روحى .. التى أحسست بأنها ذهبت ..
ونظرت إلى جارتى وكانت قد أغفلت عينيها نصف اغماضة .. عندما مالت السيارة ذات اليمين متخذة طريق البحيرات إلى المدينة ..
كانت اغفاءة حالمة .. وكان وجهها جميل التقاسيم .. ناصع البياض .. وعلى خدها الأيمن شامة صغيرة .. وعلى شفتها العليا دملة أخفتها بمنديلها وهى نائمة لما أحست بنظرى يميل إليها ..
وكانت قد عقصت شعرها بمنديل أزرق خشية أن تنكشه الريح .. وبدأ شعرها جميلا لامعا شديد السواد ..
وكان حاجباها مقرونين غزيرين .. ولكنها زججتهما .. وعملت فى أهدابها الطويلة " بالرميل " حتى ألقى الحاجبان ظلا ضعيفا على الخد الناعس ..
وكنت بكليتى منجذبا إليها وشاعرا بقوة شديدة تشدنى إلى جوارها .. لكن فارق السن الكبير بينى وبينها جعلنى أخفى مشاعرى عنها وأتراجع فرسخا إذا ما تقدمت خطوة ..
ولقد التقيت فى حياتى بنساء فى مثل جمالها وفى مثل شبابها ولكن عينى لم تقعا على مثل هذه الرقة قط .. كان حديثها همسا .. وخجلها هو خجل العذراء التى لم تزيفها المدنية .. أبدا ..
وعلمت منها بعد حديث طويل .. وبعد أن تفتحت نفسانا وأحس كل منا بالألفة لرفيقه .. أنها ذاهبة إلى الإسكندرية لزيارة خالتها التى تسكن فى حى " محرم بك " .. وأنها تخشى ألا ينتظرها أحد عند محطة الرمل .. فلا تهتدى إلى البيت .. لأنها تجهل أحياء الإسكندرية تماما .. وهونت عليها الأمر .. وقلت لها وقلبى مفعم بالسرور .. أننى على استعداد لمرافقتها إلى عتبة البيت .. وأننى أعرف الإسكندرية جيدا لأننى عشت فيها سنوات طويلة .. واطمأنت تماما وسكن روعها وقلقها ..
ولما اقتربنا من حدود المدينة لاحت الأنوار تتلألأ .. وبدت حركة بين الركاب تدل على أنهم اقتربوا من نهاية رحلتهم إذ تحركوا فى كراسيهم .. وأخذ بعضهم يتطلع من النوافذ ..
ودخلت السيارة المدينة .. واقتربنا من حى الشاطبى .. وهناك مالت السيارة إلى اليسار وأخذت طريقها على الكورنيش .. وبدا البحر يزمجر ويدفع موجه الشديد إلى الشاطىء .. والزبد يرغى .. وسرت الآنسة سعاد بمنظره وشاقها جدا حتى أخذت تتطلع فى استغراق .. وأخذتها هزة من السرور .. فاقتربت منى دون وعى منها حتى ضغط كتفها على كتفى ..
كانت نشوى وفى حالة من الغبطة هزت جسمها وأوتار قلبها فعبرت عنها وهى لا تدرى بتلك الحركة ..
وقد أدركت من اقترابها أنها أنها تلوذ بى وتلمسنى بكتفها لأدرك معنى سعادتها .. ودارت السيارة فى محطة الرمل ..
وتوقفت فى المحطة النهائية .. وأخذ الركاب ينزلون وسلمت على صاحبى صلاح ووعدته بأن ألحق به فى البنسيون ..
وكان مع الآنسة سعاد حقيبة واحدة متوسطة الحجم .. وكان معى مثلها ولكنها أصغر من حقيبتها .. وأشارت بأن نركب ترام الرمل لنوفر المصاريف .. ولكننى أركبتها تاكسى لننفرد لحظات قليلة قبل أن نفترق ..
وانطلقنا متمهلين فى شوارع الإسكندرية .. وكان التاكسى متهالكا وبطيئا فسرنى ذلك لتطول مدة وجودنا معا .. وأحسست فى ضوء العربة الشاحب وأنا أشعر بها بجوارى فى هذا المكان الصغير .. أننى أحببتها من كل قلبى .. حبا عنيفا هزنى فى ساعات قليلة .. وكنت أشعر بالخجل الشديد لفارق السن الكبير بينى وبينها ..
وكانت هى تحس نحوى بعاطفة من الإيناس والألفة .. وإن لم ترق إلى مرتبة الحب .. ولكنها كانت أقرب إلى الركون إلى إنسان تستريح له كحماية من الوحدة فى مدينة كبيرة .. وبهذا الشعور اقتربت منى وزاد التصاقها بى ..
وكلما اقتربنا من الحى الذى تسكن فيه خالتها ازداد شعورى بفراقها وشعرت بآلامى .. فقلت لها وقلبى كله لوعة :
ـ ألا أراك مرة أخرى ..؟
ـ أين ..؟ أنا لا أعرف الإسكندرية ..
فكرت سريعا فى مكان هادىء ثم قلت على الفور ..
ـ فى كازينو رشدى ..
ـ رشدى ..؟ لا أعرفه ..؟
ـ أركبى السيارة العمومية .. من طريق البحر واطلبى من السائق أن ينزلك فى محطة رشدى .. المسألة سهلة ..
ـ سأحاول ..
ـ هل يمكن أن نتلاقى غدا ..؟
ـ كما تحب ..
ـ سأنتظرك فى الصباح الساعة الحادية عشرة ..
ـ هل أستطيع أن آخذ حماما هناك ..؟
 ـ إنه شاطىء جميل .. طبعا يمكنك .. فقط ألبسى " المايوه " .. وأنت خارجة ..
ـ أنا مشوقة إلى البحر جدا جدا ..
واحمر وجهها ..
ـ ستمضين صباحا ممتعا .. تعالى حتما ..
ـ جاية والله ..
وقرعت باب بيت خالتها .. وسلمت ودخلت ..
                                   ***      
وانتظرتها فى كازينو رشدى قبل الميعاد بساعة .. وجاءت رشيقة باسمة .. وكانت قد غيرت ثوب الأمس وارتدت جونلة رمادية وبلوزة بيضاء .. وفى جيدها عقد من تقليد الزمرد زادها فتنة ..
وكان الكازينو غير مزدحم فى هذه الساعة فجلسنا على منضدة صغيرة بجانب البحر .. وأخذ المستحمون يفدون على الشاطىء ويقيمون الشماسى على صف واحد ..
وكان البحر ثائرا والراية السوداء مرفوعة .. ومع ذلك نزل بعض الأطفال إلى الماء وأخذوا ينثرون الماء على الشاطىء .. ويخوضون إلى صدورهم فى الماء .. وأمهاتهم يرقبنهم فى يقظة ..
وظهر لعينى أن اللواتى لم يخلعن ملابسهن بعد .. أجمل من اللواتى لبسن " المايوه " .. وأشد اثارة ..
وبدت الفتنة منطلقة ممن رفعن ذيول فساتينهن وهن يدفعن أطفالهن إلى الماء .. فبدت السيقان الجميلة فى لون المرمر ونعومته .. وطرف من باطن الفخذ وما يعلو الركبة ..
وكان الانفعال والحركة نفسها فى الماء تزيد من جمال الصورة وعلى الأخص إذا قاوم الطفل ودفع الأم أو تعلق بصدرها ..
وتعلقت عيناى مع عينى سعاد .. بشاب وفتاة متقاربين فى السن يحاولان النزول ثم يترددان لثورة الماء .. وأخيرا تنزل الفتاة ويتبعها الشاب .. وعلى صفارة " الغطاس " يعودان وقد أنهكهما التعب .. وتفتحت خياشيمهما مع أنهما لم يسبحا إلا بضعة أمتار  قليلة ..
وقالت سعاد لما رأت ثورة البحر :
ـ تصور أننى كنت أود أن البس المايوه اليوم .. لأستحم ..
ـ غدا سيهدأ البحر ..
ـ آمل ذلك وإلا ستضيع منى الفرصة .. لأنى مسافرة يوم الثلاثاء ..
ـ إذا لم يهدأ البحر غدا .. سنذهب إلى شاطىء العجمى وتستحمين هناك .. فهو هادىء معظم الأحيان ..
ـ على أى حال لابد أن أستحم غدا .. لأنى مشوقة إلى البحر .. مشوقة جدا ..
وكانت تتكلم بحماس .. وهى تقرب وجهها وعينيها منى .. فرأيت السواد الجميل يلتمع فى العينين العسليتين .. والشفة وقد علاها الرضاب ..
وكان البحر يهدر من حولنا بأعالى الموج .. والمصيفون أخذوا يتوافدون ويجلسون على المناضد التى بجوارنا ولكننا لم نشعر بوجودهم البتة .. كنت مأخوذا بسحر جمالها .. وسحر حديثها .. وكنت أفكر فى الأقدار التى وضعت هذه الفتاة بجانبى فى السيارة .. وأنا فى حالة حزن .. لتمسح عنى أحزان قلبى .. وتضىء الحياة أمام عينى .. كان كل ما يحيط بى وهى بقربى جميلا .. تغيرت نظرتى لكل شىء .. فالشمس متفتحة ساطعة والبحر أزرق والسماء أشد زرقة .. والبواخر تتهادى هناك فى عرض الماء وزوارق الصيادين قد طوت أشرعتها .. وألقت شباكها ..
وسألتنى وهى تراقب البواخر :
ـ هل ركبت البحر ..؟
ـ أكثر من مرة ..
ـ السفر فى البحر ممتع ..؟
ـ إنه من أجمل الأسفار قاطبة .. ينتابك احساس آخر وأنت فى قلب البحر تحسى والسماء فوقك ولا أرض هناك .. ولا حيوان .. ولا نبات .. باحساس جديد .. تحسين بالحرية التى نفتقدها على الأرض .. تحسين أن الدنيا أصبحت لك فى لحظات حالمة ..
ـ إحساس المسافر إلى القمر ..؟
ـ أجل .. ولكن دون خوف ..
وأخذنا فى حديث ممتع حتى اقتربت الساعة من الواحدة بعد الظهر .. فنهضنا وأخذنا نتمشى على الكورنيش .. وعرضت عليها بأن نتغدى معا وجبة سمك خفيفة فاعتذرت بأن خالتها أعدت لها الغداء .. واتفقنا على أن نتعشى معا ..
وركبنا الأتوبيس ورافقتها إلى قرب بيت خالتها ..
***
وفى الليل انتظرتها فى " اثينوس " .. وجلسنا بجانب فرقة الموسيقى .. ولكن لما بدأ الرقص فى " البست " رأينا وجوها ليس فيها جمال ترقص دون فن .. فتحولنا عن الراقصين .. ثم خرجنا إلى مقهى " باستوريدس " على البحر .. فقضينا جلسة شاعرية حالمة فى الضوء الخافت الذى يحرك المشاعر الهاجعة ..
ثم تمشينا إلى " الأجلون " وتعشينا هناك لحما مقددا ومكرونة وشربنا القهوة ..
وبعد العشاء مشينا والبحر يهدر .. وكانت الأنوار ساطعة فى اللسان .. وفى حى رأس التين ..
كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة والليل ساكنا .. والبحر فى أجمل مناظره .. كان يلفه ضباب أسود أشاع السحر الجهم المجهول فى الأفق الضبابى ..
كنا نسير الهوينا نستمع إلى وقع أقدامنا فى الليل الحالم .. وكانت قد تركت يدها فى يدى فشعرت بها ندية حارة .. وكنت أنظر إلى عينيها الدعجاوين الحالمتين وسوالف شعرها .. يداعبها ريح البحر وهى تدفعها بيدها الرخصة وأقرأ السرور والجذل الحالم فى القد الممشوق المتفجر .. والعينين الناعستين .. فأسر وأشعر بانتفاضة تسرى فى جسدى وألياف قلبى .. ثم تجدنى فى نفس اللحظة أجد شيئا فى نفسى يهجس بى .. ويذكرنى بفارق السن الكبير بينى وبينها .. وأحس بضباب يغشينى وبشىء يقبض على قلبى ..
كانت لاتتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها .. وكان عمرى ضعف عمرها .. وكان هذا الفارق .. يجعلنى أتردد ولا أندفع .. ولكنى كنت أحس بصدق عواطفها .. فلم تكن متكلفة ولا كاذبة فى اندفاعها نحوى ..
وقد أحسست باللحظة الجميلة .. وكنت لا أود أن أشوهها بأى خاطر متشائم ..
ولما تركتها قرب باب خالتها .. كاد الليل ينتصف .. ورجعت وحدى وأنا أحس بلوعة الفراق .. مع أنى سأقابلها فى الصباح ..
*** 
واستجاب البحر لقلبينا فى اليوم التالى فكان هادئا .. رصينا .. وكانت تلبس " المايوه " تحت ملابسها فنزلنا إلى الشاطىء .. وجئنا بكرسين من الكازينو .. وخلعت ملابسها بالقرب من شمسية كانت خالية .. وانطلقت تعدو إلى البحر وهى نشوى وفى غمرة من السعادة الدافقة ..
ورأيت جسمها أمامى عاريا .. فى تناسق جسم فينوس وفى مثل جمال تقاسيمه .. وشعرت بهزة شديدة ..
وأحسست بلسعة حارقة وأنا أرى جسمها الممشوق الثائر الفائر بالفتنة أمامى عاريا فى ضوء الشمس ..
وكان من مستلزمات الحمام البحرى .. أن تجلس ساعة بالمايوه على الشاطىء قبل أن تنزل إلى الماء حتى لا تصيبها الرعشة والبرد ..
وجلست بجوارى مسترخية وهى فى كل مفاتنها .. وكانت تأتى بحركات عفوية بريئة وبدلا من أن تخمد نارى كانت تزيدها لهيبا ..
وكنت أخفى انفعالى وازدياد ضربات قلبى واحمرار وجهى .. بالتحول عنها والتخطيط فى الرمال ..
ورأيت أن أفتح حديثا عن مشكلة اقتصادية جافة لجونسون وأرى رأيها فيها كمجرد كلام عابر .. ولكن هذه الحيلة لم تنفع وظهر التكلف والكظم على معارفى وتخلصنا من ذلك بالحديث عن موديل المايوهات منذ سنة 1925 ..
ولما نزلت إلى البحر تبينت أنها تجيد السباحة وكنت أود أن أغطس وراءها وأسفت لكونى لم أعد نفسى لحمام البحر ..
وخرجت والماء يقطر كحبات البللور من فوق جسم كالمرمر وذهبت إلى الدش ثم عادت .. متدثرة بالفوطة وأخذت تمسح سيقانها وفخذيها .. ورأيت قدميها الصغيرتين بأصابعها الدقيقة لأول مرة وهى تمدها عاريتين أمامى وهى تثنى الركبة ..
وأستطيع أن أرسم هذا الجمال كما رأيته بكل تفاصيله الدقيقة بعد ساعة .. ثم بعد عشرين سنة دون أن أنسى منه شيئا .. فقد استقرت الصورة بكل تفاصيلها الدقيقة كاملة فى ذهنى ..
وودعتها بعد أن تغدينا .. ومضينا العصر كله معا .. وكانت راجعة إلى القاهرة فى سيارة الساعة السادسة مساء ..
واخترت لها آخر سيارة لنقضى أكبر وقت سويا ..
***
وأحسست وأنا أسير وحدى فى محطة الرمل بأن سكينا حادة قد انغرست فى قلبى .. فقد شعرت أن شيئا عزيزا قد اختطف منى فجأة دون تمهيد لذلك .. وخشيت ألا أراها مرة أخرى .. مرت كالطيف دون أن أحظى منها حتى بقبلة أو ضمة ..
ولقد كتمت كل عواطف قلبى ومزقت مشاعرى وحواسى لمجرد حماقة السن .. وأدركت الآن أن هذا كله حماقة ولقد أسفت عليه بجدع الأنف ولكن ماذا يجدى الأسف ..
وأحسست بالضياع وأنا أسير وحدى .. على الكورنيش .. وكانت الشمس قد أصفرت وأخذت أشعتها الغاربة يذهب صفحة الماء وتحيلها إلى لون العسجد .. وكان المنظر جميلا ولكن عينى كان يغشيها الحزن بلون أسود ضارب .. فلم أر ما حولى من جمال ..
وانسحبت إلى مقهى صغير معتم فى داخل البلد فى شارع النبى دانيال وطلبت فنجالا من القهوة .. ثم فنجالا آخر بعد نصف الساعة وبعد أن أحسست بالصداع يضرب فى صدغى بمطارق من حديد .. وفى الليل انسحبت إلى البنسيون ولكن لم يواتنى النوم وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة .. ورأيت صلاح المهندس يضحك مع صاحبة البنسيون وكانت .. امرأة نصفا ولكنها لا تزال غندورة .. ومن نظرات عينيه إلىّ فهمت أنه نال منها كل ما يشتهيه .. وكان علىحاله من المرح ولكنها لم تؤثر فىّ ..
ودخلت غرفتى مستأذنا .. ثم بعد قليل وجدت نفسى أخرج إلى الطريق بنفس الملابس ..
ووجدت حانة على طريق الكورنيش فى حى الأزاريطة .. فاتخذت مكانى فى الداخل إلى منضدة تشرف على البحر .. وطلبت كأسا من البراندى وكنت قد انقطعت عن شرب الخمر منذ خمس سنوات .. ولكن فى هذه اللحظة لم أستطع المقاومة .. وتناولت ثلاث كئوس فى فترة وجيزة .. ونظرى يسبح وفكرى شارد وكان البحر أمامى يهدر .. وفى داخل المشرب جلس نفر من المصيفين يتعشون ويشربون فى سكون .. ورأيت فى الركن شابا نحيلا يشرب وحيدا وقد احمرت عيناه من فعل الخمر .. وكان صامتا أخرس وسترته ممزقة عند مرفقه وحالته تدعو إلى الاشفاق والرثاء ..
وكانت حالته حالة سكير ضائع .. وخشيت إن تماديت فى الشرب أن أصل إلى مثل حاله .. فكففت عن الشراب وبارحت الحانة ..
وفى هذه اللحظة لمحت سيدة حسناء غاية فى الأناقة تعبر طريق الكورنيش ومشت فى الدرب الصغير القائم المعتم الذى على ناصية الحانة ودخلت فى شارع جانبى فسرت وراءها والخمر تدفعنى إلى ملاحقتها فى طراد عجيب حتى دخلت بيتا من أربعة طوابق .. وغابت عنى .. ووقفت حائرا .. وأخذت أتراجع خطوات فى الشارع الساكن .. وأنا أقرأ أرقام المنازل حتى لمحت لافتة تشير إلى غرفة مفروشة ثم سيدة تهم باغلاق نافذة غرفة فأخذت أنظر إليها بقوة كأننى ألتمس منها العون على إخراجى من كآبتى ..
وسألتها فى عجلة :
ـ الغرفة المفروشة .. هنا ..؟
ـ أجل ..
ـ هل أستطيع أن أراها ..؟
ـ الآن .. بالليل ..؟
ـ تعبت من البحث طول النهار حتى حفيت قدماى .. أرجوك ..
ـ طيب تفضل ..
ونفذت بسرعة من باب العمارة .. وفتحت لى بابها ..
ودخلت وراءها وأغلقت الباب بخفة وسرعة .. ولاحظت السكون المخيم فى الداخل .. والنور الخافت .. وأخذت عيناى تتطلعان إلى ما حولى .. وأجلستنى .. برشاقة فى الصالون وتركتنى ..
وجلست وحيدا وأنا أشعر بهزة الخوف من فرط السكون المخيم لولا أن السيدة كانت فى جمال نادر ودماثة أخذت تبدد الخوف وتشيع الطمأنينة فى قلبى ..
ودخلت بابتسامة على الشفة وزجاجة كوكاكولا فى اليد ..
فقلت وأنا أتناول منها الزجاجة .. وأضعها جانبا :
ـ شكرا ولكن إذا كان لابد من تحية .. فأنا أفضل القهوة .. لأنى أشعر بصداع شديد ..
ـ هل شربت ..
ـ كثيرا .. حتى سكرت ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى فقدت شيئا عزيزا ..
ـ ضاعت محفظتك ..؟
ـ المحفظة لا تزال فى جيبى ..
ـ لماذا تحزن وتبتئس إذن .. بالنقود تستطيع أن تفعل وتشترى كل شىء حتى السرور ..
ـ ليس إلى هذا الحد ..
ـ بل وأكثر من ذلك ..
وكنت أتطلع إلى صورة مقلوبة فى صدر الصالون ..
ـ لمن هذه الصورة ..؟
ـ إنه المرحوم زوجى ..
ـ زوجك .. ولماذا جعلت وجهه إلى الحائط ..؟
ـ حتى لا يرى عرضه المثلوم ..
وفتحت فمى دهشا ..
واستطردت بحرارة ..
ـ لقد قلبت الصورة منذ ست سنوات عندما جاءنى أعز صديق لزوجى فى الشهر الذى مات فيه .. يراودنى عن نفسى بمكر ونذالة .. ولم أكن أتصور النذالة تبلغ هذا الحد بالرجال .. فبصقت على وجهه وصفعته ..
ودمعت عيناها ..
ـ ولكن الفقر أذلنى .. لم أجد إنسانا ذا مروءة .. يحفظ الشرف والكرامة لأرملة مسكينة .. تكاد تموت جوعا .. ولاحقتنى الديون والمطالبات كأنما تفتحت أبواب جهنم مرة واحدة لتصلينى بنارها .. وجاء النذل مرة أخرى وعلى شفتيه ابتسامة المنتصر الذى يريد أن ينتقم .. ودفع الديون وقلب صورة صديقه العزيز بيده .. جعل وجهها إلى الحائط وابتاعنى ..
ـ وهل كل الرجال أنذال مثل هذا ..؟
ـ ليس كلهم طبعا .. فهناك الطيبون أمثالك ..
وكان فى صوتها لهجة تهكم ..
ـ تعال أرك الغرفة ..
ومشيت وراءها فى الداخل .. وفتحت بابا ..
ـ هل أعجبتك ..؟
ـ إنها جميلة حقا ..
ـ وهل تريد أن تسكن حقا ..؟ أم أن .. تقضى ليلة ..؟
ـ أريدها شهرا بطوله ..
ـ سيكلفك ذلك كثيرا ..
ـ كم ..؟
ـ تسعون جنيها .. ثلاثة جنيهات فى الليلة ..
وابتسمت وأخرجت محفظتى ..
ـ أتريدين شيئا مقدما .. الآن ..
ـ لا .. ليس الآن .. ادفع فى الصباح .. أنت غنى ..؟
وقالت برقة :
ـ هل تريد أن تأكل شيئا أو تشرب قليلا من الخمر ..
ـ لا بأس ما دمت سأقضى الليلة معك ..
وانسابت بخفة ..
وسمعت بابا داخليا يفتح .. وصوت رجل فى صوت كالهمس .. ثم خيم السكون من جديد ..
وعادت تحمل زجاجة من الخمر .. وبعض السمك المشوى ..
ـ مع من كنت تتحدثين ..؟
ـ مع البواب .. كنت أطلب منه شيئا من السوق ..
ـ وهل يعرف أن عندك ضيفا ..؟
ـ طبعا لا .. اطمئن ..
وكانت فاتنة فى ثوبها الأسود .. وهى لا تتجاوز الثلاثين من عمرها .. ورأيت على وجهها بعض الهموم .. والسهوم .. وهى تنظر إلى الكأس .. ثم عادت إلى صفائها .. ولطفها ولم أستطع مقاومة الفتنة فاحتضنتها .. فتملصت منى برقة .. وهى تقول بنغم عذب :
ـ ألا تستطيع أن تضبط عواطفك ..؟
ـ أبدا أننى متيم .. إلى حد الجنون ..
ـ بمثل هذه السرعة ..؟
ـ وهل للحب مقياس وأزمنة ..؟
ـ كلا .. عندك حق ..
وانزلق ثوبها وهى تطفىء النور ..
وسألتنى برقة :
ـ ما اسمك ..؟
ـ خليل ..
ـ وأنا اسمى فوزية ..
ـ اسم جميل ..
وسبحت معها فى الكلام وكنت أحس بأنفاسها ورائحة عطرها .. وكانت قد تعطرت ونفشت شعرها .. وتركت قميصها الأسود ينحسر عن فخذيها وكتفها اليسرى .. وأحسست وأنا أرطب شفتى المحترقتين برضاب شعرها بأنها تكتم ألما ممضا يسحق روحها .. ولكن كانت تروح فى دوامة الحس المخدر .. لتنسى حدثا جللا ..
كما أحسست وأنا أحتضنها بقوة .. بأنى أتعذب وأن البؤس والعذاب والقلق يعذب روحى ..
وأحسست بنشوة الصبا وأنا أرى روحها الحانية المعذبة .. بمثل عذابى تستجيب لى وتمتزج بى ..
وفى الضوء الخافت الأزرق سبحت .. وأحسست بالنعاس يداعب أجفانى ..
ولما استيقظت أحسست بثقل غريب وفى عينى وفى رأسى .. ولم أجدها بجوارى ..
ولما خرجت من الغرفة وجدتها فى الحمام ..
وكانت الشقة فى عتمة رهيبة .. وصوت البحر يهدر فى جنون ..
ولمحت على الضوء الباهت شيئا معلقا فى غرفة جانبية .. فارتعش قلبى .. لمحت مظلة يابانية كالتى كانت فى يد سعاد ..
فتقدمت بقوة .. ودخلت الغرفة وفى رأسى الحزن .. نفس اليد .. لنفس المظلة .. كانت من نفس الصنف .. ولكن القماش يختلف لونه .. فسررت .. وفيما أنا أضعها فى مكانها وجدت بابا يفضى إلى غرفة داخلية فدفعته فلان تحت يدى ..
وعلى الضوء الخافت وجدت رجلا مطروحا على الأرض وكان هناك دم يخرج من أنفه وفمه .. ولما اقتربت منه عرفته إنه عبد السميع الغنى الجشع صاحب العمارة الذى كان معنا فى السيارة والذى ابتز مال صديقى وغيره من الحائرين الذين يرغبون فى السكن .. جاء يقضى معها ليلة وكان يرتدى نفس بدلتة التى رأيته بها فى السيارة .. ونسيت ما فعله بصاحبى وحزنت على مصرعه وارتعش قلبى .. وانتابنى الفزع وأغلقت الباب بسرعة ..
وارتديت ملابسى وأنا أرتعش .. وانسحبت متسللا .. إلى الشارع ..
وكان الليل يصفر .. والريح تعصف .. ولكنى رحت أعدو وأعدو فى ظلام الليل دون وعى .. حتى ارتطمت بشىء .. ووقعت على الأرض فاقد الوعى ..
وأخذت أستفيق ببطء وكان أثر المخدر لا يزال فى رأسى .. فثقلت جفونى وفتحت عينى بصعوبة .. كان الضباب لايزال يغشيهما .. ووجدت كل ما حولى أبيض .. الحجرة .. والفراش .. حتى الكراسى ..
ووجدت سيدة تجلس بجوارى وكانت شابة جميلة تمسك بمظلة يابانية فى يدها .. ولكنها لم تكن مطوية فى هذه المرة .. كانت قد فتحتها فوق رأسى لتقينى من الشمس .. أو من شىء آخر .. وكانت تنظر إلىّ بحنان وأنا أتنفس بصعوبة .. أتفصد عرقا ..
وكنت أفتح عينى بقوة لأعرف أى المرأتين هى .. أسعاد أم فوزية ..
فقد كنت على حالة من الضعف .. لم أستطع منها أن أدرك الحقيقة ..   
ولكن على أى حال كانت السيدة تحرك المظلة بلطف كأنها تروح بها على قلبى ..
====================== 
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
========================

 

    
    

حَبات من الزمرد


     فندق « الباب الذهبى » فى « كولون » دلنى عليه صديقى ( تشن ) ..
      وتشن شاب صينى مهذب التقيت به عرضا فى القطار القادم من « لوو » وأنا راجع من الصين الشعبية ولما علم أننى مصرى وحيد فى بلاد الصين تطوع أن يكون دليلى بشهامة عديمة النظير ..
     وقد اختار لى هذا الفندق لقربه من المطار ولأنه يقع فى شارع جانبى بعيد عن ضجيج المواصلات فى المدينة الصاخبة ..
     وقضيت أربعة أيام فى الفندق وأنا أشعر براحة المسافر الذى يعيش فى الفردوس ..
     وفى اليوم التالى .. الخامس هبط علينا نفر من جنود الطيران الأمريكيين .. وكانوا قادمين من مانيلا .. فحولوا الفندق بصخبهم إلى جحيم .. فاضطررت أن أجمع حاجاتى لأرحل .. وفيما أنا أخرج قمصانى من درج « الشوفنير » عثرت على حبات من الزمرد الخالص وكانت متوسطة الحجم .. ومن أندر أنواعه على الإطلاق .. وبهرنى جمالها ودقة صنعها ..
     وأول شىء خطر على بالى فى الحال أن أسلمها لإدارة الفندق لتتصرف فيها كما يحلو لها ، ولكن عدلت عن هذه الفكرة بعد أن تبينت من الفتيات العاملات فى هذا الجناح أن غرفتى كانت مؤجرة لشاب يدعى « كارتر » يعمل ملحقا ثقافيا فى قنصلية أجنبية وقضى فى الغرفة عامين كاملين وتركها لأنه نقل من هونج كونج ولم يشغلها بعده إنسان سواى ..
     وأبقيت الحبات معى .. وأنا أجيل الأمر على كل الوجوه لأجد طريقة للاستدلال على صاحبها .. ثم دار فى خلدى أخيرا على أقرب الاحتمالات إلى الرجحان ، أن الحبات تخص سيدة قضت ليلة غرام مع هذا النزيل ثم نسيتها وذهبت .. ومنعها الخجل أو خشية الفضيحة أن تعود فتسأل عنها ..
     وانتقلت إلى فندق « الميرامار » وهو قريب من البوغاز .. وحبات الزمرد معى وكنت أضعها فى جيبى حيثما ذهبت خشية أن تسرق لو تركت فى حجرتى بالفندق ..
     وذات ليلة وأنا أتعشى فى مطعم « البحار السبعة » بشارع « كوين رود » فى هونج كونج جذبنى بهدوئه وقلة رواده .. رأيت سيدة أجنبية تتناول العشاء على مائدة مفردة .. وكانت تزين جيدها بعقد من الزمرد شبيه تماما فى حجم حباته ولونه وبريقه بالحبات التى وجدتها ..
     وكان المكان هادئا وتنبعث من زاوية فيه موسيقى صينية خفيفة .. مما جعلنى أعلق نظرى بالسيدة وكانت أجمل من فى المطعم .. وكان جمالها ووداعتها وكونها وحيدة .. يشجعنى على محادثتها .. ولكن السبيل إلى التعارف كان شاقا وعلى الأخص أنه لم تتح لى أية فرصة لبلوغ قصدى .. فبارحت المطعم دون أن أبادلها كلمة واحدة ..
     وحدث أن التقيت بهذه السيدة مرة أخرى ضحى يوم من أيام الثلاثاء فى بهو الفندق .. وكانت تتناول مفتاحها من لوحة المفاتيح فعرفت أنها تقيم معى فى نفس الفندق ونفس الجناح ..
     ومنحتنى الظروف فرصة ذهبية لألتقى بها مرة ثالثة .. فى مكان أنسب للتعارف .. إذ جلسنا معا جنبا إلى جنب على الدكة الخشبية فى السفينة التى تعبر البوغاز .. وكانت تقرأ جريدة جنوب الصين فطيرها الهواء من يدها .. فجريت وأعدتها لها فشكرتنى بعذوبة وكانت ذاهبة مثلى إلى هونج كونج ..
     وأخذنا نتحدث بالإنجليزية عن جمال المدينة .. وجمال هذه البواخر السريعة التى تنقل الجمهور عبر البوغاز من كولون إلى هونج كونج فى رحلة ممتعة تحت أجمل مناظر البر والبحر على الإطلاق ..
     وقالت لى .. إنها ذاهبة إلى بنك الصين .. لتصرف بعض الشيكات السياحية .. فعبرت لها عن سرورى لمرافقتها فى هذه الجولة إذ لا غرض لى فى الواقع من الذهاب إلى هونج كونج أكثر من التجول ..
     ولم نمكث فى البنك أكثر من سبع دقائق .. ثم خرجنا نضرب فى شوارع المدينة ..
     وكانت تريد أن تبتاع بعض الأشياء من محلات « ين كراوفورد » فدخلنا المحل وتسوقت أشياء كثيرة اشتركنا فى حملها معا .. وحدثتنى بأنها أمريكية كزوجها ..
     وسألتنى فى رقة :
     ـ هل سمعت عن إنديانا .. ؟
     فقلت لها :
     ـ إنها الولاية التى أنجبت « إبراهام لنكولن » .. أعظم رجل فى تاريخ أمريكا .. بل طراز نادر فى الرجال عبر تاريخ البشرية ..
     ـ هل تعتقد هذا .. ؟
     ـ إنها الحقيقة .. !
     ـ ولكن زوجى لم يتمثل بإبراهام أنه يصطاد السمك الآن فى (أبردين) ..
     ـ هواية ممتعة ..
     ـ أو تعتقد هذا .. ؟ إنها تستغرق حواسه تصرفه عن كل شىء آخر .. تصور أنه لم يشاهد شيئا فى « هونج كونج » بعد .. ولنا هنا قرابة اسبوعين .. وإذا كان هذا هو غرضه من السفر .. فلماذا تحملنا المشقة وقطعنا آلاف الأميال كان يستطيع الصيد فى إنديانا ..
     ـ ولكنك على « نقيضه » تتنزهين ولم تضيعى ساعة واحدة دون مشاهدة شىء جديد ..
     ـ أجل .. وماذا كنت أفعل غير ذلك .. ؟!
     ورأيت فى عينيها الخضراوين بسمة جميلة .. وكانت حبات الزمرد على صدرها .. والحبات الشبيهة بها فى جيبى ..
      وكنت أود أن أخرج ما فى جيبى لأقارب بين العقدين .. وأسرد لها القصة كلها .. ولكن استحييت ..
     ومشينا حتى رصيف البواخر .. ثم ودعتها وقفلت عائدا إلى المدينة ..
     وكنت متشوقا إلى ملاقاة زوجها .. فرأيته فى الصباح الباكر .. واقفا بجانبها أمام المكتب المعد للاستقبال .. وكان يملى برقية .. وبيده ( الشص ) وعلى كتفه " الجراب " .. وكان بملابس الصيد الكاملة .. النعل والشورت والجاكتة ذات الجيوب المنتفخة ..
     وكان مرسل اللحية وقد ترك شعره ينمو على عارضيه بغزارة .. وقدرت سنه فى حدود الأربعين .. وبدا لى متناهيا فى الطيبة .. وهى تقدمه لى برقة .. وصافحنى « شارل » بحرارة وحدثته « جوان » بأنى رافقتها إلى البنك الصينى .. وسهلت لها الأمر فى البنك كما صاحبتها وهى تتسوق بعض حاجاتها .. وحملت لها الأشياء .. حتى الميناء وانحنى لى الرجل بود الفلاح الطيب القلب .. وصافحنا وذهب إلى صيده ..
     وشيعت « جوان » زوجها وهى ضاحكة .. وأخذت تحدثنى عن عمله .. وأنه يملك مزرعة وحظيرة للأبقار .. وأنهما فى بحبوحة من العيش ومنذ أربع سنوات وهما يسيحان فى مطلع كل شتاء .. إلى كل بلاد العالم ..
     وتركتها بعد ساعة وأنا أفكر فى عرض هذه الحبات على جواهرى فى المدينة لأعرف قيمتها ..
     ومشيت أتفرس فى واجهات الحوانيت .. وكانت الساعة قد بلغت الحادية عشرة صباحا والأرصفة تموج بالرائحين والغادين .. وحركة المرور على أشدها والجو صحوا والشمس ساطعة .. ولم تكن هناك أكثر من لفحة برد خفيفة ..
     وأخيرا اخترت متجرا صغيرا فى شارع « دى فو » .. واجتزت أكثر من باب لأصل إلى داخل المحل .. حيث وقف رجل ربعة يتفحصنى بعينين نفاذتين ..
     وحدثته بالإنجليزية عن رغبتى وأنا أضع حبات الزمرد أمامه على المنضدة .. فنظر إليها مليا بدون اكتراث وهو يوجه إلى نظرة جامدة ..
     ثم أخرج المجهر وجعل يتفحصها حبة حبة وقال فى إنجليزية سليمة ..
     ـ إنها زمرد خالص ..
     ـ وكم حبة تنقصها لتكون عقدا .. ؟
     ـ خمس حبات فقط ..
     ـ وبكم الخمس .. ؟
     وحرك أصابعه على آلة فيها بلى .. ثم قال بهدوء :
     ـ بمائة دولار ..
     ـ دولار ( هونج كونجى ) ..؟
     ـ نعم ..
     ـ أليس هذا كثيرا .. ؟
     ـ هذا هو سعر السوق ..
     ـ لقد انفرط العقد من زوجتى وهى خارجة من السينما .. وضاعت منها الحبات الناقصة .. أرجو أن تقدر هذه الظروف ..
     ـ اسأل عن السعر فى الخارج .. وستعرف كم أنا أكرمتك ..
     ـ لا فائدة .. ؟
     ـ آسف هذا آخر سعر ..
     ـ وإذا بعت لك هذه الحبات فبكم تشتريها .. ؟
     ـ أشتريها بألفين من الدولارات ..
     ـ فقط .. ؟
     ـ فقط ..
     ـ سأشاور زوجتى .. وأعود ..
     ـ كما تشاء ..
     وخرجت وحدى ومشيت فى شارع ضيق .. وسمعت أقداما خفيفة تتعقبنى .. ثم رأيت شابا يدخل من باب جانبى .. ولم أعره انتباها وخرجت إلى الطريق الرئيسى والحبات فى جيبى ..
     وكانت الساعة قد بلغت الواحدة بعد الظهر .. فتغديت وجبة سمك .. وخرجت أتمشى فى المدينة ولمحت دار من دور السينما فيلما يعرض لسلفانا مانجانو .. وكان الفيلم مثيرا فأحببت أن أراه كاملا قبل أن يعمل فيه مقص الرقيب فى أى بلد آخر ..
     وقطعت تذكرة فى ( البلكون ) وكانت السينما قد اشتغلت ويبدو أن العرض مستمر .. وأدخلنى العامل وأجلسنى فى صف من الصفوف الخلفية ..
     فجلست فى الظلام وأنا أمر بالسكون العميق فلا نأمة ولا همسة ولا حركة من مخلوق حى .. وبدا لى جليا أن الرواد مشغولون بحلاوة ( سيلفانا مانجانو ) ومتابعة الفليم عن أى شىء آخر ..
     ولكن تبين لى بعد أن أخذت عيناى على الظلام أننى الجالس الوحيد فى كراسى ( البلكون ) كلها .. ثم ظهر شبح وحيد .. فى الصف الثالث .. وكان متطرفا إلى أقصى اليمين ..
     وكانت السينما طويلة طولا لاحد له .. وقليلة الاتساع فى العرض .. فبدت لى فى هذا الظلام الرهيب كالنفق الموحش .. ولولا أن سيلفانا كانت تضحك وتتجرد من ملابسها قطعة قطعة .. لخرجت مفزوعا من فرط الرعب ..
     ولكن سيلفانا لم تمنعنى من التوتر والإحساس بالخوف .. إذ شعرت بأننى المخلوق الوحيد الذى يتنفس فى المقصورة .. والآخر الجالس هناك شبح .. وليس إنسانا وكان وجوده وصمته يزيدنى رعبا ..
     وبحركة عفوية أخرجت سيجارة من جيبى وأشعلتها .. وقبل أن أستمرئ مذاقها رأيت شبحا يقف على رأسى ويقول بصوت فيه غلظة :
     ـ التدخين ممنوع ..
     ـ آسف لقد كنت ناسيا .. هل أستطيع أن أدخنها فى الخارج .. ؟
     ـ تفضل ..
     وأضاء لى بنور البطارية الطريق فى الظلام .. ووقفت فى البهو الخارجى .. أدخن وأفكر فى مبارحة السينما .. وقد وجدتها فرصة لأهرب ..
     واتخذت طريقى إلى الخارج فعلا .. وشعرت وأنا أهبط السلالم بأقدام تتحرك ورائى ..
     وفى الشارع رأيت وجه الشاب الذى كان يلاحقنى .. فى متجر الجواهر وخارجه .. وجعلتنى هذه المطاردة أحافظ على الحبات بكل حواسى وأنا أتحرك فى الطريق ..
     وفى صباح يوم التقيت « بجوان » .. فى أحد شوارع « كاولون » الجانبية بعيدا عن الميناء .. وكانت تقف على باب حانوت ولما لمحتنى أسرعت نحوى ..
     وقالت بسرعة :
     ـ أرجو أن تصحبنى فى جولة قصيرة .. أريد .. أن أشترى شيئا .. وهم يرفعون السعر أضعافا مضاعفة إذا كانت السيدة وحدها ..
     ـ أنا طوع أمرك ..
     ونظرت إلى صدرها .. فوجدته عاريا .. ليس فيه عقد الزمرد ..
     فسألتها بدافع من الفضول :
     ـ أراك تركت العقد اليوم .. فى الفندق ..
     ـ لا .. لقد سرق منى ..
     ـ سرق .. ؟!
     ـ أجل ولا أدرى هل نزع منى وأنا أصعد جسر البواخر .. أم فى الشارع أم فى السينما .. إن النشالين فى هونج كونج .. ليس لهم ضريب فى العالم كله ..
     ـ أدركت هذا منذ الأسبوع الأول ولهذا أحافظ على جيوبى .. وهل ستشترين غيره .. ؟
     ـ أجل .. الآن .. وإلا ظن بى زوجى الظنون .. فإنه لا يصدق أبدا أنه نشل ..
     واحمر وجهها .. أكثر وأكثر .. وأشفقت عليها .. وتحسست بيدى مكان حبات الزمرد التى فى جيبى ..
     وقلت لها وبى رغبة قوية لأن أعطيها هذه الحبات بعد أن استكمل لها الحبات الخمس الناقصة ..
     ـ أعرف متجرا فى هونج كونج .. دعك من متاجر « كولون » .. وسنذهب إليه غدا فى أى وقت تشائين .. ونبتاع لك العقد من هناك .. فهذا أضمن وأدعى إلى الاطمئنان ..
     ـ أو تعرف صاحب المتجر .. ؟
     ـ أجل ذهبت إليه مرة ..
     ـ وأسعاره معقولة ..
     ـ إلى حد كبير ..
     ـ حسن .. كم أشكرك .. لأنك ستنقذنى من موقف محرج للغاية ..
     واشترت بعض الحاجات ورافقتها إلى الفندق ..
     وعبرت البوغاز إلى هونج كونج واشتريت الحبات التى تنقص العقد .. بحوالى مائة دولار .. ونثر الجواهرى الفصوص كلها ثم كون منها عقدا جميلا .. فوضعته فى جيبى وفى عزمى أن أعطيه « لجوان » فى الصباح .. كهدية مفاجئة لها .. بدل العقد الذى سرق منها ..
     واسترحت فى مشرب إلى الساعة الخامسة مساء .. ثم أحسست بالرغبة إلى أن أذهب إلى « ابردين » .. فركبت سيارة إلى هناك ..
     ووقفت على الرصيف .. ومئات الزوارق تتهادى فى عرض الماء .. وآلاف منها راسية فى صفوف منتظمة على الساحل .. وعلى البيوت المواجهة يلمع الغسيل الأبيض فى ظلام الليل ..
     وكان العشى قد دخل وأضيئت المصابيح الصغيرة فى الزوارق والسفن .. وبدت الميناء كلها كحبات من النجوم تناثرت على أرض من الزئبق ..
     ورأيت النساء الصينيات .. يتعلقن بالسائحين ليحملوهم على النزول إلى زوارقهن .. كل شابة تقبل على نفر منهم وتشير إلى زورقها .. وبعد نزول الجميع فى الزوارق .. بصرت بزورق منفرد .. يقف وحده بعيدا وشابة صينية فى مؤخرته .. جلست وحدها .. وكانت لا تغرى أحدا بالركوب فى زورقها .. بأية إشارة أو حركة .. وكان على وجهها تعبير من الصمت والأسى دفعانى لأن أتقدم نحو زورقها ..
     وهبطت الزورق حتى دون أن أسألها إن كانت على استعداد لأن تبحر بى ..
     وظلت فى مكانها نصف دقيقة وهى لا تحرك ساكنا بعد أن توسطت الزورق .. ثم جذبت الحبل الذى يربط الزورق .. وأمسكت بالمجداف .. وبعد أن خرجنا من صف الزوارق .. وأصبحنا وحدنا فى عرض الماء .. نظرت إليها والى طول قامتها ورشاقة حركاتها .. وكانت ملساء العود .. طويلة على عكس الصينيات وتضع على شعرها الأسود منديلا .. وتلبس جونلة وصديرا أزرق .. وفى قدميها حذاء خفيف يساعدها على الحركة والتنقل من مكان إلى مكان ..
     وعندما بعدنا عن مكان الزوارق والرصيف .. والذهبية التى يتناول فيها السائحون السمك المصطاد حديثا .. وكل ما فى المكان من حركة وصخب .. بدا الخليج ساكن الموج وبيوت الفقراء على الساحل فقيرة شاحبة ..
     وقلت للفتاة :
     ـ استريحى .. واتركى المجداف .. فإنى أحب أن يتهادى الزورق على صفحة اليم ..
     فتركت المجداف .. وجلست عند الدفة وهى تنظر إلى بعيد .. وتأملت وجهها وشعرها وقوامها كله .. فى جلستها المنثنية .. كانت جميلة تقاطيع الوجه .. وفى عينيها الناعستين اللتين تزيدها فتنة وكأن أسنانها صف من اللؤلؤ .. يلتمع فى ليل لم يطلع فيه قمر ..
     وكانت مستديرة الوجه وإذا نظرت إليها من جانب .. ظهر حاجباها الغزيران وخط الهدب .. وشحمة الأذن الصغيرة وقد تخطتها سوالف الشعر الأسود ..
     وسمعت وأنا أتأملها وأتأمل الليل والنجوم تحادث شخصا بالصينية .. فارتجفت إذ كنا فى وسط الماء .. ولم أشاهد شخصا غيرها فى الزورق ..
     ثم تبينت فتاة صغيرة فى القاع .. خارجة تفرك عينيها وكانت نائمة ثم استيقظت ..
     وسألتها :
     ـ أهذه بنتك ..؟
     ـ أجل ..
     ـ وأين أبوها .. ؟
     ـ مات منذ ست سنوات ..
     ـ هنا .. ؟
     ـ أجل .. هنا فى « ابردين » .. مات ودفن فى الماء ..
     وسألتها :
     ـ وأنت .. هل تشتغلين بالصيد ..؟
     ـ إننى أكتفى بنقل السياح .. إلى الذهبية .!
     ـ وتربحين من عملك هذا ..؟
     ـ بعضهم يعطى كثيرا .. وبعضهم يعطى قليلا وإنى راضية ..
     ـ وأنت .. هل تعمل هنا فى هونج كونج .. ؟
     ـ إننى سائح .. ؟
     ـ ما هو اسمك .. ؟
     ـ إبراهيم ..
     ـ وحيدا .. ؟
     ـ نعم ..
     ـ أو ليس معك زوجتك .. ؟
     ـ لم أتزوج بعد ..
     ـ وهل شاهدت كل الأماكن الجميلة فى « هونج كونج » « وكولون » ..
     ـ بعضها .. وأحب أن أشاهد الباقى .. ولكن ينقصنى رفيق من المدينة ..
     ـ ألا تعرف أحدا .. ؟
     ـ كلا .. هلا ترافقيننى ..
     ـ وهذه ..؟ أتركها لمن ..؟ إننى لا أستطيع أن أترك الماء ساعة واحدة ..!
     ـ يحزننى ذلك ..
     ونظرت إلى ما حولى .. وقلت لها .. وأنا أود أن أبعد بالزورق وأبعد إلى قلب المحيط ..
     وسألتها :
     ـ ما اسمك .. ؟
     ـ ... ..
     ـ هل تسمحين لى بأن أجدف ..
     ـ أتعرف ..؟
     ـ إننى فلاح .. وقريتى على النيل ..
     وأمسكت بالمجداف ..
     واتجهت بالزورق إلى الشمال وهى تواجهنى بنظراتها فى ثبات .. وكانت فتاتها جالسة فى المقدمة صامتة .. ولا أدرى أتعرف الصغيرة الإنجليزية أم لا .. لأن أمها كانت تحادثها بالصينية التى لم أكن أفهم منها حرفا ..
     وبعد أن قطعت مرحلة طويلة فى التجديف .. ألقيت بالمجداف .. وجلست بجانبها ..
     وسألتنى فى عذوبة :
     ـ أتعبت ..؟
     ـ كلا .. ولكن أود أن أتأمل هذا الجمال ..
     وقلت مستطردا .. وأنا شاعر بنشوة ..
     ـ رأيت فى هذه الرحلة أجمل فتاتين فى العالم أجمع .. واحدة فى « يوهان » والثانية فى « ابردين » ..
     ـ فى « ابردين » .. من هى ..؟
     ـ أنت ..!
     ونكست رأسها واحمر وجهها ..
     وأضفت مستطردا :
     ـ وإذا سألتنى .. أيهما الأكثر جمالا والأكثر فتنة .. أقول لك التى فى « ابردين » ..
     فرفعت رأسها وقالت ضاحكة بعذوبة ..
     ـ أنا لم أسأل ..
     ـ ولكننى أجبت .. على السؤال على أى حال ..
      واقتربت منى وقالت برقة .. وهى تميل علىّ بوجهها ..
     ـ هل تقول هذا الكلام .. لكل فتاة .. ؟
     ـ لا .. لا .. ما قلته لسواك قط ..
     ومسحت على ذراعى ..
     ـ ولكنى ما سمعته قبلك من إنسان ..
     والتصقت بى ..
     فقلت هامسا ..
     ـ الفتاة تنظر إلينا ..
     ـ إنها عمياء ..
     وكأنى قد لسعنى سوط .. فابعدتها عنى فى رفق ونكست رأسى وأنا أحس بدوامة الحياة ..
     ولم تستطع .. أن تدرك ما طرأ على مشاعرى من تحول على الفور فصمتت ..
     ورفعت رأسى .. ورأيت حبات الزمرد متناثرة هناك فى هذا المكان .. على الأرض .. وفى الماء .. وفى كل رقعة فى العالم ولكن يغطيها تراب الفقر .. فلا تراه عينى ..
     وبرق فى ذهنى خاطر بوحى الساعة .. فاقتربت من الفتاة الصغيرة ومسحت على شعرها .. وأخرجت حبات الزمرد من جيبى ووضعتها فى حجرها ..
     وكانت أمها تنظر إلىّ فى ذهول .. والزورق يتهادى .. ولا أحد يحركه .. وحبات الزمرد مازالت تبرق فى حجر الفتاة وأصابعها الصغيرة تلمسها فى حنان .. وكنت أحس أن عينيها المنطفئتين قد بدا يلوح فيهما شعاع من النور ..




=================================  
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس "سنة 1966
=================================






فهرس

اسم القصـــــة                         رقم الصفحة

وقفة على الدرب       ......................   2
سوق الأحد             .....................    8
مساء الخميس           .....................   14
الغضب               .......................   23
صقر الصحراء      .......................    34
فى الغسق           .......................    39
السائق              ........................   44
خيط من النور      ........................    49
حقل البطيخ         .......................    56
صقر البحار        ........................    63
الأصابع العارية     ......................     74
البائع الجوال        ........................   82
الوحش             .......................    86
القرية الوادعة      .........................   93
درس              ........................    97
الجوع              .......................   100
النجوم             ........................   104
بداية طيبة         .........................  110
المظلة اليابانية     ........................   114
حبات من الزمرد   .......................   133









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق